الخميس، 24 يوليو 2014

الدولة والتكوين الفكري


كما حاولت أن أقول في المقال السابق: العلاقة الحقيقية والأصيلة التي ينشأ عنها حياة الخلية الأسرية لا يمكن أن تبنى بدون الحب أو على الحب فقط. هناك مفاهيم وعوامل أخرى يجب ان تتضافر مع الحب كي نصل إلى بدايات ما يمكن أن نسميه "التوافق الفكري". وهذه الأشياء منها ما يدخل في حيز التقدير الشخصي لطرفي العلاقة، ومنها ما يدخل ضمن تأثير الدولة من خلال أداء دورها اتجاه مواطنيها. وبالتأكيد سينعكس كفاءة الدولة في القيام بدورها اتجاه أفراد المجتمع بالسلب أو بالإيجاب على الوعي الجمعي ومدى النطاق الذي يمكن أن يسمح لأفرادها أن يكون لهم شئ من التفرد كحق من الحقوق الأساسية.

وفي الكثير من الاوقات يصعب الفصل التام بين أنواع التأثيرات الداخلية والخارجية المحيطة التي يمكن أن تُشكل خيارات المرء وقراراته وتوجهاته الفكرية وميوله العاطفية. وفي أحيان كثيرة، ليس ما تقوم به الدولة فقط هو الذي يؤثر في وعي أفراد المجتمع، ولكن أيضا ما يتم التوافق عليه بشكل بديهي بين أفراد القاعدة الأساسية المجتمع، أو بمعنى آخر الطبقة الوسطى فيه، مشكلا فسيفساء عفوية، يمكن أن يؤثر بشكل كبير في توجهات الدولة التي أحيانا كثيرة ما تسعى لتجنب الصدام المباشر مع مجتمعها. ويجب هنا أن أوضح أن حديثي سيكون مبنيا على افتراض وجود قدر من الوعي والعدل وتكافؤ الفرص في المجتمع الذي سينشأ فيه أناس قادرين على أن يتخذوا قرارات شخصية تؤثر بالإيجاب على حياتهم الشخصية والعملية وبالتالي على إنتاجية العمل والإقتصاد الكلي للدولة في النهاية.

وكما يقول المأثور القديم: العطش دليل على وجود الماء. ومنه يمكن أن أقول أن وعينا وفهمنا لما يجب أن تكون عليه حياتنا سيدفعنا يوما ما إلى تحقيق هذه الحياة. إن لم تكن لنا فلربما كانت لأولادنا. وإن فشلنا مرة في الوصول لمسعانا، فسيأتي من وراءنا من يمكنهم أن يتعلموا ولو جزء من أخطائنا ويطالبوا بحقهم في الحياة العادلة الكريمة. فلا يمكن للمرء أن يحب بصدق دون أن يكون حرا كريما.

هناك الكثير من الأشياء الهامة للمرء والتي يجب أن يوفرها له المجتمع الذي يحيى فيه، مثل الحد الأدنى جودة التعليم، مدى آدمية البيئة التي يعيش فيها المرء، الحق في العلاج، الحق في العمل، الحق في الإطلاع على الإنتاج الفكري، وكلها أشياء تدخل ضمن دور الدولة اتجاه أفراد مجتمعها وتؤثر بشكل كبير في تكونيهم الفكري وبالتالي في قدرتهم على اتخاذ القرار.

فالتعليم، نوعيته ومستواه يؤثر في تشكيل شخصية الفرد وهو حجر الأساس لانطلاق ابداعاته في غالب الأحوال. وبالتالي قد يكون تقارب المستوى التعليمي بين طرفي العلاقة العاطفية، التي ستفضى في نهاية المطاف إلى الزواج، عامل من العوامل المؤثرة في بناء التوافق الفكري. وقد يكون يكون في أحيانا أخرى لا، عندما تصبح جودة التعليم متوقفة على من يدفع أكثر، عندما تغزو الجامعات الخاصة والأجنبية المجتمع كتعويض ممسوخ لفشل الدولة في توفير تعليم جيد لأبناء مجتمعها، تُنسف هنا فكرة وجود التوافق بناءاً على تقارب مستوى التعليم. لأنه لم يكن يوما الفقر والغنى دليلا دامغا على التفوق الفكري. لربما كان المرء فقيرا، يتنقل بين الأعمال المؤقتة من حينٍ لآخر، ولكنه أكثر وعيا وإدراكا لشئون الحياة من فتاة مدللة لم يكن لها أن تكون في كرسيها الجامعي لولا أموال أهلها. وليس في مثالي هذا تعميم، ولكنه حالة توجد بشكل صارخ في حياتنا ومن ينكرها فهو إما أعمى أو يدعى العمى.

من العوامل الأخرى التي تسهم في تنشأة الإنسان داخل مجتمعه: مدى آدمية البيئة التي يعيش فيها. وهذا العامل الذي نسعى للحديث عنه سيقودنا لحتمية التفاوت الطبقى الصارخ في مجتمعنا الذي أجد أن الهشاشة قد نهشت الكثير من بنائه المتهالك المشوه. عندما ينظر المرء للأبراج المذهلة في تصميماتها وهي في الوقت نفسه تجاور عشوائيات تنضح بالألم، ماذا يمكن أن نتوقع من أفراد مجتمع اعتادوا العيش على هذا، كيف يمكن أن نتوقع أننا قادرون على بناء أناس يتصفون بالسوية إن كانت الدولة التي يعيشون فيها ترضى بأن يزداد الفقراء فقرا والأغنياء غنى. ومن لا يدرك إلى ماذا يمكن أن يؤدي بنا هذا التفاوت الطبقى الصارخ، أقترح عليه أن يقرأ رواية يوتوبيا لأحمد خالد توفيق وهي ستخبره بما يريد أن يعرف.

عندما نوفر للإنسان الحد الأدنى من التعليم الذي يستوعب الفروقات الفردية، عندما نوفر له البيئة التي يستطيع فيها أن يتلمس تضاؤل الفروق الطبقية، عندما نرى تكافؤ الفرص كواقع وليس مبدأ سامي، سيساهم هذا كله في تنشأة إنسان قادر على أن يحب، يتسامح، يعطي، يفكر بوعي وحرية، يطلع، يعمل وأمام ناظريه هدف أكثر عمقا من بديهيات المأكل والمشرب. وسيكون حينها قرار ارتباطه العاطفي بشخصا ما والسعي للزواج منه هو شئ أكثر أصالة من فكرة قضاء الحاجة الجنسية الملحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق