الأحد، 31 أغسطس 2014

عام السباغيتي - قصة قصيرة لـ هاروكي موراكامي



ترجمها من اليابانية للإنجليزية: فيليب جابرييل
ترجمها من الإنجليزية للعربية: محمود حسني

كان عام 1971 هو عام السباغيتي. لم أكن أفعل شئ في حياتي سوى طهي السباغيتي. دائما ما شعرت بالبهاء والسعادة كلما رأيت بخار السباغيتي يتصاعد من إناء الألومنيوم أثناء طهيها. كانت رغبتي الوحيدة تكمن في أن أراقب صلصة الطماطم وهي في المقلاة، تنضج على النار حتى تكون جاهزة كصوص من أجل السباغيتي.

في ذلك العام، أتذكر أنني قد ذهبت إلى متجر خاص بمستلزمات المطبخ واشتريت موقت للطبخ ووعاء كبير من الألومنيوم يصلح لطهي السباغيتي. كان كبيرا لدرجة مدهشة. ثم أخذت أتنقل بين الأسواق، واشتريت الكثير من الطماطم، وقمت بجمع مجموعة متنوعة من التوابل النادرة. مررت على محل لبيع الكتب واخترت كتاب لطرق عمل الباستا. واشتريت كل نوع من السباغيتي وجدته أمام عيني، وطهوت من صوص الطماطم كل نوع من الممكن أن يكون قد سمع به شخص ما.

أتذكر رائحة زيت الزيتون مع قطع البصل والثوم الصغيرة تملأ فضاء شقتي، وخاصة الركن الذي يقبع فيه المطبخ. وبمرور الوقت، انتشرت الرائحة في جميع أرجاء المكان. وتغلغلت في أرض الشقة وسقفها وجدرانها، في ملابسي وكتبي وسجلاتي. حتى أنني كنت استطيع أن أجدها بين حزم رسائلي القديمة. إنها رائحة كالتي كان من الممكن أن تجدها في أزقة روما القديمة.

هكذا كان عام 1971، عام السباغيتي.


كنت أقوم بطهي السباغيتي وتناولها بمفردي. أصبح هذا الأمر بمثابة قاعدة لي، مقتنعا أن أفضل طريقة للاستمتاع بتناول طبق من السباغيتي عندما تكون بمفردك. في الحقيقة، لا أستطيع تفسير لماذا كان ذلك الاقتناع بداخلي، ولكن هكذا كان الأمر.

كنت أجلس إلى الطاولة واضعا الشاي والقليل من سلطة الخس والخيار -كان على أن اتأكد بشكل دائم من أن لدي الكثير منهما- مع السباغيتي، مستمتعا بتناول وجبتي على مهل، مُنهِيا كل ما تحتويه، تاركا الأطباق فارغة، تكاد تبدو مثل نظيراتها النظيفة. هكذا كنت على مدار الأسبوع من بدايته إلى نهايته. وعندما يبدأ أسبوع جديد، ابدأ رحلة جديد مع نوع جديد من السباغيتي.

في كل مرة جلست لأتناول السباغيتي، خاصة في الأيام الممطرة، ينتابني شعور غريب بأن هناك شخص ما سيطرق باب شقتي. وفي كل مرة أتخيل شخصا مختلفا: أحيانا أتخيل أنه شخص غريب، أحيانا أخرى أتخيل أنه شخص أعرفه، في مرة تخيلت أنها فتاة ذات سيقان ممشوقة كنت قد واعدتها في المدرسة الثانوية، وفي مرة تخيلت أنه أنا من يقف وراء الباب وقد جئت من سنوات قليلة ماضية لزيارتي الآن، وفي أوقات أخرى لم أكن أتخيل أنه قد يكون سوى ويليام هولدن وجينيفز جونز بين ذراعيه.

في حقيقة الأمر، لا أحد من هؤلاء غامر وأتى إلى شقتي. فقط كانوا في ذاكرتي كقطع السحاب التي تحوم حول الباب ولا تلبث إلا وتتلاشى.

على مدار ذلك العام، كنت أطهو السباغيتي وكأنني أمارس عملا انتقاميا. كفتاة هجرها حبيبها وهاهي تلقي برسائله في نار الموقد. مثلها، كنت ألقي بأعواد السباغيتي في وعاء الطهي.

أمسك ببعض السباغيتي بيديّ، أجمع الأعواد مع بعضها البعض بشكل جيد، ومن ثم أضعها في الماء المغلي وأنثر عليها بعض الملح. وبعدها، أظل واقفا بجوار نار الموقد، أحوم حول وعاء الطهي وفي يدي أعواد تناول الطعام اليابانية الشهيرة، من النوع الكبير، منتظرا جرس موقت الطبخ الذي بدت نغمته حزينة بشكل لم أفهمه.

كنت أتخيل أعواد السباغيتي وكأنها شياء ماكرة. ولهذا لا يمكنني السماح لها أن تغيب عن ناظريّ. فربما إن أدرت لها ظهري في مرة، قد تنزلق من فوق حافة الوعاء وتتلاشى بين جنبات الليل. كغابة استوائية تنتظر لبرهة من الوقت، في ليلة يغشاها الصمت، لتبتلع الفراشات الملونة في لحظة تشعر أن الزمن قد توقف فيها، وكأنها لحظة خلود.

أخذ يتردد في ذهني أنواع السباغيتي بالإيطالية
سباغيتي آلا بارميجانا
سباغيتي آلا نابوليتانا
سباغيتي آل كارتوسيو
سباغيتي آليو أوليو
سباغيتي آلا كاربونارا
سباغيتي دي لابينا

كان مصير الكثير من السباغيتي أن تُلقى على أحد رفوف الثلاجة بلا اكتراث. هذه الأعواد التي وُلِدت بين يدي فوق نار الموقد، وغسلتها بنهر الماء الذي غسلت به السباغيتي في ذلك العام، ومن ثم اختفت وكأنها لم تكن. في النهاية لم أملك شيئا سوى الرثاء لكل السباغيتي التي طهوتها.

في ديسمبر من ذلك العام، في الثالثة وعشرون دقيقة، رن جرس الهاتف. كنت مستلقيا على الحصير كشئ فارغ، مثل ذبابة ميتة، محدقا في السقف، وبقعة من ضوء الشمس تسقط على المكان الذي أرقد فيه وكأنها تشكله.

في البداية، لم أستطع التحقق إن كان حقا صوت جرس الهاتف. وكأنه ذكرى لشئ قديم غريب عني أخذ ينبعث بين طبقات الهواء في الغرفة. في النهاية، أخذ الصوت يتشكل في ذهني لأتأكد بما لا يدع مجال للشك أنه صوت جرس الهاتف. وعلى الرغم من أنني مكثت مستلقيا على الحصير، إلا أنني التقط سماعة الهاتف.

على الطرف الأخر كان هناك صوت غير واضح لفتاة، تبينت في النهاية أنها صديقة سابقة لصديق لي. شئ ما حدث بينهما وجعلهما ينفصلان. عليّ أن أعترف على مضض أنني لعبت دورا في الجمع بينهما في أول مرة التقيا فيها.

قالت: آسفة لأنني أزعجتك، هل تعلم أين هو؟

نظرت إلى الهاتف، ماسحا بنظري السلك الواصل إليه، كان طوله كافيا بالتأكيد ليتم توصيله بالهاتف. في النهاية تمكنت من الرد عليها بشئ مبهم. أحسست حينها أن هناك ما هو مشؤوم في صوت هذه الفتاة. وأن هناك مشكلة ما تختمر في إحدى الأركان، ولهذا لم يكن لدي رغبة في أن أتورط في أي شئ يخصها.

قالت بنبرة باردة غير مريحة: لا أحد سيقول لي أين هو، الجميع يتظاهر بأنهم لا يعلمون. ولكن هناك شئ مهم أود أن أقوله له. ولهذا أرجوك قل لي أين هو، وأعدك بأنني لن أورطك في أي شئ، ولن أخبره أنني عرفت طريقه من خلالك.

قلت لها: في حقيقة الأمر، أنا لا أعرف أين هو، لم أره منذ فترة طويلة.

كان صوتي لا يشبه الصوت الذي تعودت على سماعه. كنت أقول الحقيقة حول أنني لم أره منذ فترة طويلة. ولكنني كذبت بخصوص أنني لا أعرف أين هو. لأنني كنت أعرف عنوانه ورقم هاتفه. كنت كلما أتفوه بكذبة، شئ ما غريب يحدث لصوتي.
لم أجد منها أي تعليق.
وكأن الهاتف قد تحول إلى لوح من الثلج.
ثم بدأت الأشياء من حولي تتحول إلى ألواح من الثلج، وكأنني في قصة خيال علمي لـ ج. بالارد G. J. Ballard.

كررت لها: في الحقيقة، لا أعلم أين هو. لقد ذهب منذ فترة طويلة ولم يقل شيئا لي.
ضحكت الفتاة: حسنا، دعني أفكر، هو ليس بفطن للغاية، نحن نتحدث عن شخص دائما ما أحدث صخبا فيما يفعل بغض النظر عن جدواه أو أهميته.
لقد كانت محقة فيما تقول. فهو لم يكن فطنا بما يكفي.

ولكن هذا ليس معناه أنه يجب عليّ أن أخبرها أين هو. إفعل ذلك، وفي المرة القادمة ستتلقى مكالمة بها الكثير من التوبيخ القاسي. كنت بعيدا عن مشاكل وعبث الآخرين. كالذي حفر حفرة في الفناء الخلفي ودفن فيها كل ما يحتاج أن يُدفن. ولم يكن لي أن أسمح لأحد بأن يحفر من جديد مُخرِجا شيئا من هذه الأشياء.

قلت: أنا آسف
قالت فجأة: أنت لست مرتاحا إليّ، أليس كذلك؟

لم يكن لدي أدنى فكرة عما تقول، فأنا لا أكرهها على نحو خاص، كل ما في الأمر أنه ليس لدي انطباع اتجاهها. إنه من الصعب أن يكون لديك مشاعر سيئة نحو شخص ليس بداخلك شئ اتجاهه من الأساس.

قلت: أنا آسف، ولكنني الآن أطهو سباغيتي.
قالت: ماذا؟
قلت: لقد قلت أنني أطهو سباغيتي.

كنت أكذب، ليس لدي أدنى فكرة لماذا قلت ذلك. ولكن هذه الكذبة كانت جزء مني ومن حياتي. في الحقيقة، في هذه اللحظة، لم أكن أشعر أنني أكذب على أي حال.
انطلقت بخيالي وملأت وعاء الماء الوهمي، وأوقدت نار الموقد الوهمي بأعواد الثقاب الوهمية.

قالت: وهذا يعني؟

نثرت الملح الوهمي على الماء المغلي، وبلطف وضعت السباغيتي الوهمية داخل الوعاء الوهمي. ثم ضبط موقت الطبخ الوهمي على اثني عشر دقيقة.

قلت: وهذا معناه أنه لا يمكنني الحديث، لأن السباغيتي سوف تفسد لو تركتها على الموقد.
لم تقل شيئا.

قلت: أنا آسف، ولكنني أحتاج إلى تركيز من أجل طهي السباغيتي.
ظلت الفتاة صامتة، وبدا أن الهاتف سوف يتجمد من جديد بين يدي.
ثم أضفت على عجل: إذا هل يمكنك مكالمتي لاحقا؟
سألت: لأنك تطهو السباغيتي.
قلت: نعم
سألت: هل تطهوها من أجل أحد ما، أم ستتناولها وحدك؟
قلت: سأتناولها وحدي.
كتمت أنفاسها للحظة بدت طويلة، ثم أخرجت زفيرها وقالت: لا أجد طريقة لأجعلك تعلم ما أنا فيه. ولكنني في مشكلة حقيقية ولا أدري ماذا أفعل.
قلت: آسف، ليس في وسعي مساعدتك.
قالت: إن الأمر يتعلق ببعض الأموال التي اقترضها مني
قلت: يمكنني تفهم ذلك.
قالت: هو مدين لي، لقد قدمت له بعض المال، لم يكن علي أن أفعل ذلك، ولكن هذا ما حدث.
بقيت صامتا لدقيقة، وأفكاري كلها تنجرفت نحو السباغيتي الوهمية، ثم قلت: ولكن عليّ أن أذهب الآن لأن السباغيتي ســ.....
صدر منها ضحكة فاترة وقالت: إلى اللقاء. أخبر السباغيتي الخاصة بك سلامي لها. آمل أن تكون مطهوة على خير حال.
قلت: وداعا.

عندما وضعت سماعة الهاتف، كانت بقعة الضوء قد انحرفت عن مكانها على الأرض بمقدر إنش أو اثنين. فعدت لأرقد تحتها من جديد. وبقيت أحدق في السقف كما كنت من قبل .

كان تفكيري يأخذني لتخيل أن هناك نوع من السباغيتي من الممكن أن يظل يغلي في الماء إلى الأبد دون أن ينضج أبدا وهو الأمر الذي بدا لي أنه يبعث على الحزن.
الآن، أشعر ببعض الندم لأنني لم أخبر الفتاة عن أي شئ. ربما كان يجب عليّ مشاركتها ما أفعل. أعني أن صديقها السابق لم يكن يعني لها الكثير. الأمر كله كان يتمحور حول المال، وسينتهي الموقف عندما يعيد لها المال الذي أقترضه منها.

أحيانا أتسائل ماذا حدث للفتاة؟ كانت ذكراها تقفز إلى ذهني عندما يكون البخار يتصاعد من طبق السباغيتي الساخن. هل اختفت للأبد بعدما أغلقت الهاتف في في الرابعة والنصف عصرا من ذلك اليوم؟ هل يجب أن ألوم نفسي ولو جزئيا على ما حدث لها؟

أنا أريدك أن تتفهم موقفي، لأنني لم أكن أرغب في أن أتورط في مشكلة تخص أي شخص آخر. هذا ما كان يدفعني للاستمرار في طهي السباغيتي بنفسي ولنفسي في ذلك الوعاء الكبير بدرجة مدهشة.

السباغيتي التي كانت في الأصل ذرات من السميد، والذي كان بدوره أعواد تمتلئ بسنابل القمح الذهبية، تتمايل مع نسيم الريح في الحقول الإيطالية الرائعة.

هل يمكنك أن تتخيل كيف ستكون دهشة الإيطاليين إن علِموا أن ما صدروه عام 1971 في حقيقة الأمر لم يكن سوى العزلة الخالصة؟

رابط تحميل القصة بالإنجليزية: 

https://9thgradecc.wikispaces.com/file/view/the+year+of+spaghetti.pdf

الخميس، 28 أغسطس 2014

أينشتاين يسأل ماكسويل: ماذا لو ارتحلنا في الكون على متن شعاع ضوء؟!

 
إن ما تناولناه في المقال السابق من طفرة أحدثها فاراداي وبحوثه حول الطاقة والكهرباء والمغناطيس ساعدت علماء القرن التاسع عشر على تصنيف الطبيعة إلى نوعين: الطاقة، وهي القوى التي تحرك الأشياء. والكتلة، وهي المواد التي تتشكل منها هذه الأشياء. وكانت القوانين التي تحكم إحدى هذين النوعين لم تكن تنطبق على النوع الآخر.

وقد استطاع العلماء قبل حلول القرن التاسع عشر رصد سرعة الضوء، ولكن أحدًا لم يكن يفهم ماهيّته. وفي إنجلترا، استطاع مايكل فاراداي – ابن الحداد - تقديم تخمين مدروس عن ماهيّة الضوء، فبعد وفاة السير همفري ديفي، أصبح البروفيسور مايكل فاراداي أحد أهم من أجروا التجارب في العالم. ولكن كانت المؤسسة العلمية الرسمية ما تزال ترفض فكرة أن الكهرباء والمغناطيسية ما هما إلا مفهومان لظاهرة واحدة سماها فاراداي “الكهرومغناطيسية”.

مع ذلك كان عليه أن يحاول إثبات أفكاره الثورية بالشروحات والرسومات التوضيحية في محاضراته العامة. كان يجاهد كي يقول أن هناك خطوطًا غير مرئية تصدر عن الكهرباء السارية في سلك، أو المغناطيس أو حتى الشمس. كان يحاول أن يعبر عن إيمانه الداخلي بأن الضوء نفسه ما هو إلا شكل من أشكال موجات الطاقة الكهرومغناطيسية. وظلت محاولاته قائمةً لمدة تزيد عن خمسة عشر عامًا لإقناع المشكّكين بأفكاره، والتي كانت لا تزال يُنظر إليها بعين الريبة من الجميع.

ولكن أطروحات فاراداي كانت تفتقد إلى رياضيات متقدمة تدعمها وتبرهن على صحتها. حتى ظهر أخيرًا من يؤازره، وهو البروفيسور جيمس كلارك ماكسويل، الذي آمن بصحة رؤية فاراداي بعيدة النظر، وكان لديه الطريقة الرياضية التي تستطيع إثبات صحة آراءه . وطوال محاولات ماكسويل لإثبات صحة هذه الآراء، توطدت العلاقة بينهما، حتى أصبح ماكسويل صديقًا وتلميذًا لأستاذه العجوز فارادي. حتى جاء الوقت الذي عرض فيه ماكسويل على فاراداي آخر ما توصلت إليه معادلاته.

كانت النتائج التي تشير إليها هذه المعادلات تبين أنه: عندما تجري الكهرباء في سلك والتي تخلق مجالًا مغناطيسيًّا، أو حركة الشحنة المغناطيسية التي تخلق الكهرباء، فإن هاتين القوتين تمتزجان على شكل جديلة لا نهائية من الكهرباء والمغناطيسية مندفعة دائمًا إلى الأمام. بل إن هناك شيئًا أكثر حيوية أظهرته المعادلات الرياضية التي قام بها ماكسويل. فقد توصل إلى أن هذه الجديلة اللانهائية من الكهرباء والمغناطيسية تتحرك بسرعة محددة تمامًا مقدارها: 670 مليون ميل في الساعة، وهي نفس سرعة الضوء. وبهذا فقد أثبتت معادلات ماكسويل الرياضية صحة تخمينات فاراداي المدروسة وآراءه التي كانت تفترض بأن الضوء ما هو إلا شكل من أشكال موجات الطاقة الكهرومغناطيسية.

وفي بداية القرن العشرين، كان الشاب أينشتاين حديث العهد بالفيزياء. ولم يكن يحب قوانين علماء القرن التاسع عشر والتي صنفت الطبيعية إلى نوعين: طاقة ومادة. ولم يكن يميل أينشتاين للعلوم التطبيقية في الوقت الذي كان فيه مولعًا بالفيزياء النظرية. لم يكن طالبًا نموذجيًّا، كان متميزًا في الفيزياء والرياضيات ولكنه لم يكن كذلك في معظم المواد الأخرى. كان هذا الأمر مثيرًا للتساؤل بين أساتذته وزملائه، ودائمًا ما سبب لهم الضيق طوال حياتهم، خاصة أساتذته.

كانوا يجدون فيه إصرارًا عجيبًا على متابعة ما يثير شغفه. ويظهر لنا من بعض كتابات أينشتاين عن نفسه أنه كان مفتونًا بطبيعة الضوء منذ كان عمره ستة عشر عامًا. كان يزعج كل من يعرفهم أو يلتقيهم من أصدقائه أو زملائه وحتى صديقته التي أصبحت بعد ذلك زوجته بالسؤال عن ماهيّة الضوء. كان دائمًا ما يتساءل ماذا سأرى لو امتطيت شعاعًا من الضوء؟ ماذا لو انطلقت في رحلة إلى أقصى حدود الكون على مقدمة شعاع من الضوء؟ بل ماذا سأرى إن شرعت في تسلق شعاع ضوئي حتى أبلغ مقدمته. هذه الملاحقة المستمرة لطبيعة الضوء، والتي شغلت أينشتاين، هي ما أحدثت ثورة في تاريخ العلم. فبالضوء أعاد أينشتاين تركيب نظرتنا إلى الكون.

كانت تساؤلات الشاب أينشتاين خطوة على طريق عثوره على العلاقة التي تربط بين الطاقة والكتلة. ولكي تتبلور في ذهنه أهم معادلة في تاريخ العلم، كان يحتاج إلى المزيد من التأمل والعمل بالرياضيات، كي يتجمع في ذهنه القطع الناقصة التي ستمكنه من رؤية الصورة كاملة بشكل أكثر وضوحًا. كان الرمز “c” والذي يستخدم للإشارة لسرعة الضوء ليس كافيًا كي تتشكل في ذهنه صورة معادلته الثورية.

هنا سيأتي دور جديد لمن أحدثوا طفرة من الطفرات الهامة في تاريخ العلم، كالتي أحدثها فاراداي وماكسويل، ولكن هذا مقال آخر..

http://www.ibda3world.com/einstein-and-maxwell/



الرواية التاريخية .. عند الأسواني ومراد وهشام الخشن





لطالما كانت قضية الدقة التاريخية للمحيط الذي تدور فيه أحداث عمل روائي إشكالية وموضع نقاش بين المؤرخين الذين يطالبون بالالتزام بالخط التاريخي من جهة، وبين الأدباء الذين يسعون في بعض الأحيان إلى التحرر من القيد التاريخي للأحداث معللين ذلك بوجهات نظر تدور حول أن من يكتب التاريخ هو المنتصر، وأن الأمر لابد أن يُترك للقارئ، هو الذي يفرق بين الصواب والخطأ دون وصاية من أحد عليه.



وقد لوحظ أن اهتمام الأدباء بخوض غمار تجربة كتابة الرواية التاريخية قد زاد في الفترة الأخيرة. خاصة، التجربة التي تتناول التاريخ القريب. ولكنني أود أن ألقي الضوء على بعض ما يخص ثلاث روايات صدرت في السنتين الأخيرتين، تنتمي إلى الرواية التاريخية وهي: نادي السيارات لـ علاء الأسواني (2013)، 1919 لـ أحمد مراد (2014)، جرافيت لـ هشام الخشن (2014). وقد اخترت هذه الأعمال الثلاثة لعدة أسباب، أهمها: أن ثلاثتهم يتناول فترة زمنية واحدة تقريبا، حيث تدور الأحداث قبل ثورة يوليو، تحديدا في الخمسين سنة الأولى من القرن العشرين. بالإضافة إلى أنهم يعتبروا من أحدث الأعمال التي صدرت وتنتمي لفئة الرواية التاريخية.



ففي رواية نادي السيارات، تدور الأحداث في عهد الملك فاروق وفي بيئة مكانية ضيقة نسبيا، يتناول الأسواني حياة الملك فاروق بالطريقة التي اعتاد المصريين أن يروه عليها في الافلام والمسلسلات. وربما يكون الأسواني قد أقام البحث التاريخي بدقة أوصلته لهذه الصورة فعلا –بغض النظر عمن كتب التاريخ ومتى- فالمشكلة لا تكمن في هذه النقطة وفقط، بل إن الأمر يمتد ليشمل كتابات الأسواني وطابعها. أي أن الأمر له علاقة أساسية بالقالب الروائي الذي يصر الأسواني على ألا يكتب خارجه شيئا. مشكلة القالب الروائي الخاص بالأسواني، والذي أراه مشوها ممسوخا، تأكد في هذه الرواية. حيث تم استخدام الجنس فيها بشكل مفرط، بالنفس الطريقة التي استخدم بها في عمارة يعقوبيان وشيكاجو. إن الأمر لم يعد قائما على الصدفة أو على تشابه الظروف الزمنية والمكانية التي تدور فيها أحداث العمل الروائي. فثلاثة أعمال للأسواني كل منها يدور في زمان ومكان مختلف عن الآخر تظهر فيهم جميعا الشخصيات مصابة بحالة من الهوس الجنسي التي تتنوع بين شهوة جارفة عند رجل أو امرأة لعوب أو رجل شاذ. وكأن ليس هناك أناس يعيشون حياة طبيعية جنسيا، وكأن الجميع قد أصابهم عقدة تستوستيرونية يصر الأسواني على أنها سمة أساسية في كل من يجب الحديث عنهم.



إن الأسواني يجب أن يعلم أن نجاح قالبه الروائي في عمارة يعقوبيان لا يعني بأي حال من الأحوال إضاعة وقت القارئ في أعمال أخرى ليس فيها أي شئ جديد على المستوى اللغة أو الحكاية. ولا أستطيع هنا اعتبار أن مزجه للجنس بالسياسة شفيع له كي يصيبنا في كثير من الأحيان بالاشمئزاز والنفور من وصفه المبتذل للمشاهد الجنسية. ولا أجد مبررًا يدعوه للتمسك بهذا القالب الروائي -مجازا- المهترئ سوى رغبته في المحافظة على إيرادات البيع. حيث روايته تجد للأسف صدى عند شريحة من القراء كنتيجة لعوامل كثيرة في مجتمعنا. إن القارئ العربي يقرأ الأدب من كل مكان في العالم، بداية من ديستويفسكي وتولستوي مرورا بهاروكي موراكامي و جورج أورويل وصولا لميلان كونديرا وماركيز ويوسا. إن القارئ العربي، والذي تزداد شريحته كل يوم، يستحق أدباء يحترمون ذوقه ويتقنون أعمالهم كي تنال إعجابه. إن القارئ العربي يستحق أفضل مما يقدمه الأسواني على أنه أدب.



أما عن رواية 1919، فهي نتاج ما يمكن أن يكتبه مراد عندما يخلع من على كتفيه رداء التشويق. فالعودة الزمنية لفترة سعد زغلول والتي هي معروفة لدى الكثيرين منا ومؤرخة بشكل جيد للغاية جعل الادعاء بأن مراد قد اجتهد بشكل مضني في بحث تاريخي شاق ادعائا مثيرا للكثير من علامات الاستفهام والتعجب. ماذا كانوا سيقولون لو كتب شيئا مثل سمرقند لأمين معلوف أو ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور. فمن السهل للغاية الحصول على معلومات تخص فترة سعد زغلول وما تلاها. وبالتالي من السهل أن يلتزم الروائي بالخط التاريخي للأحداث دون تشويه أو انحراف. ولكن كل هذا لم يكن شفيعا لمراد كي يخرج عملا جيدا، يمكننا فيه أن نجد أدبا وتشويقا وتاريخا ممزوجا بشكل متجانس. وعوضا عن ذلك، أصر على استخدام اللغة الركيكة والتي ظهرت بشكل كبير في السرد عندما غاب التشويق. بالإضافة لخروجه عن المسار التاريخي لحيوات بعض الشخصيات الحقيقية تحت هامش الضرورة الدرامية والتي لم أجد أن لها أي وجود في روايته.



ولم يتوقف انهيار العمل الروائي التاريخي عند هذا الحد، بل امتد ليشمل استدعاءه ألفاظ وشتائم معاصرة واستخدامها في واقع -لا تنتمي له نهائيا- كان موجودا منذ مائة عام تقريبا. إن ما كتبه أحمد مراد في 1919 هو ما يمكن أن يكون مزيجا للدعاية والتسويق وكتابات سابقة للكاتب ليس فيها من الأدب بقدر ما فيها مما يدعى اليوم بـ Pop Culture. حتى عندما حاول مراد أن يعود إلى الماضي لم يستطع مشروع الأديب بداخله أن يتغلب على كاتب سيناريو المسلسلات. ربما كان يجب عليه قراءة سمرقند، أو عزازيل، أو ثلاثية غرناطة. ربما كانت قراءته لهذه الأعمال تجعله يستعد بشكل حقيقي لكتابة عمل أدبي تاريخي، ربما كانت جعلته يضع مشروع الرواية التاريخية في مكانها وحجمها الصحيح.



هنا تأتي رواية جرافيت لهشام الخشن، لتنتشل الرواية التاريخية من هوس الجنس الذي أصابها في "نادي السيارات"، وابتذال اللغة والانحراف عن المسار التاريخي الذي أضاعها في "1919". فالخطوط الزمنية المتوازية والقصيرة التي تعالج حكاية عائلة مصرية عام 1928، دفعت الكثير من السأم عن القارئ، والذي كان من الممكن أن يصاب بالملل وعدم الرغبة في إكمال رواية تتحدث عن فترة زمنية تم تناولها في الكثير من الأفلام والمسلسلات، لو لم تكن كُتِبت بطريقة هشام الخشن. ومن السهل أيضا أن تلاحظ منذ البداية أناقة اللغة ورصانتها. فليس هناك ابتذال ولا ألفاظ وشتائم تحت بند الضرورة الأدبية. وهنا يجب أن أتوقف لأقول أنني لا أقف في صف ما يسمى بالرواية المحافظة (إن كان هناك شئ يسمى رواية محافظة)، ولكنني لا أتحمل العمل الأدبي الذي يبتذل في استخدام اللغة تحت داعي الضرورة الأدبية، والتي في كثير من الأحيان تكون ذريعة من أجل الكتابة دون اتقان وجهد ومثابرة.



إنني هنا لست في خضم معركة محاولا تفضيل عمل على آخر. ولكنها وجهة نظري، وما وجدته متأملا قارئا للأعمال الثلاثة. لم تقع جرافيت في فخ الجنس ولا في فخ تبسيط اللغة حد الابتذال من أجل المبيعات. وفي الوقت نفسه التزم الكاتب بالخط التاريخي للأحداث ولم تنحرف شخصياته في مسارات الأحداث التي مرت بها بعيدا عما حدث بالفعل في وقائع التاريخ. كان هذ الالتزام واضحا مع وجود شخصيات حقيقة كدرية شفيق وحسن البنا. بالطبع جرافيت بها عيوب كأي جهد بشري. فالرتابة التي كانت ظاهرة في نصف الرواية الثاني كانت جزءا من هذه العيوب. ولكن ألم تكن الرتابة واقعا يحياه الناس في هذه الفترة من الزمن؟ ما أود قوله أنه ما يمكن أن يكون عيبا في إيقاع الأحداث  قد يكون منتميا بشكل أو آخر إلى الحالة التي تحاول الرواية وصفها والانغماس فيها، وليس استسهالا من الكاتب أو ما شابه. فمن ناحية تناول الرواية للتاريخ بظروفه وتعقيداته: لم أجد بها عيوب أو ابتذال أو ما شابه.



إن ما أود قوله في النهاية هو: أنني وجدت جرافيت تتفوق على نادي السيارات و1919 من ناحية التناول الأدبي لوقائع التاريخ. وللغرابة فإن العملين الآخرين يتفوقان عليها في نسبة المبيعات. ربما هذا هو قدر غالبية من يبحث عن الجودة والاتقان. ربما أود هذه المرة أن يٌخيِّب القدر ظني.

الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

دائرة السينما والأدب .. بين الأرض والفيل الأزرق



لم يكن لكثير من الأعمال الأدبية أن تشتهر وتأخذ موقعها في ذاكرة مجتمعنا إلا عندما قدمتها السينما. فهي أقرب الفنون إلى الإنسان العادي، أي الشخص الذي نادرا ما تجد أشكال الأدب والفن تشغل حيزا كافيا من وقته. وتزداد قيمة ما تنتجه السينما عندما تعتمد في بناء أفلامها على الأعمال الروائية الفريدة، ولا أقصد هنا الانتقاص من السيناريو السينمائي المخصص لعمل بعينه، ولكنه اعتراف بأن الأدب أسهم بشكل ليس بقليل في تطور الحكيّ في العمل السينمائي والارتقاء بذوق المشاهدين بعيدا عن الأعمال التي تهتم بإبراز العنف والمشاهد الجنسية من أجل زيادة إيرادات شباك التذاكر.



حيث تعمل السينما كوسيط بين الأعمال الروائية وعامة جمهور يميل إلى السينما لطبيعتها الحركية المشوقة، الديكورات، الموسيقى التصويرية والنجوم المحبوبين، في الوقت الذي لا يميل كثيرا للقراءة، خاصة وإن كان ما يقرأه يحتاج إلى شئ من التأمل. وبالتالي فإنه من الممكن القول بأن مجتمعاتنا تعد من أكثر المجتمعات التي تحتاج إلى أن تتبنى أعمالها السينمائية الأعمال الروائية. لتقوم بدورها كوسيط في نقل ما هو أدبي إلى ما هو سينمائي. فربما تكون هذه خطوة لدفع المجتمع في طريق القراءة والاطلاع.



ولم يكن لروايات نجيب محفوظ أن تنطبع في وجداننا كما هي عليه الآن، إن لم يتحول عدد كبير منها إلى أفلام سينمائية أشهرها "الثلاثية". فكانت السينما باستنادها إلى الأدب تفتح لنفسها وبنفسها دربا حقيقيا وراسخا يمكن أن نعتبره أرقى ما يعبر عن السينما الجادة. فمن طبيعة العمل الروائي أنه لا يكون مجرد سرد من أجل تسويد مئتي أو ثلاثمائة ورقة بالحبر، بل يحمل على عاتقه قضية تهم الروائي الذي هو جزء من حالة مجتمع بعينه. وعندما تنتقل هذه القضية من الكلمات إلى شاشة السينما يظهر للمشاهد كم أن الفنان الذي يقدم له العمل يشاركه آلامه وهواجسه، وأن هذا الفنان يتلمس ما يشغل فكر الناس ويؤرقهم. فيجعل المشاهد يشعر أنه ليس وحده، في وقت تزداد فيها ضغوطات الواقع وصعوبته.



وهذا ما نجد يوسف شاهين قد نجح فيه عندما حول رواية الأرض (1954) للكاتب عبدالرحمن الشرقاوي إلى فيلم سينمائي بنفس الاسم (1970)، والذي يعد ضمن أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما المصرية، حيث يمكنك أن تتلمس في كل تفاصيله قوة مسارات الأحداث التي كتبها الروائي، وعمق الرؤية التي يتمتع بها مخرج إستثنائي مثل يوسف شاهين. إننا نستطيع بكل بوضوح القول بأن فيلم الأرض هو من أكثر الأعمال التي يمكن أن تتبلور فيها فكرة السينما الجادة. هذه الحكاية التي تدور أحداثها في قرية من قرى مصر عام 1933 والتي تمتلئ بكل المشاكل التي أصابت الريف المصري في عهد الملكية والاستعمار البريطاني، قد أسهمت بشكل غير عادي في تشكيل وعي أجيال متتابعة من أبناء مجتمعنا. ولا أظن أن هناك الكثير من الأعمال التي من الممكن أن تباري هذا العمل في قدرته على التأثير بعمق في الوجدان الجمعي لمجتمع بعينه.

فقد قال عنه الناقد الفرنسي جان لوي بورمي في مجلة الابزرفاتور بعد عرضه في مهرجان كان السينمائي بفرنسا "إن الأرض ليس حدثا بالنسبة للسينما العربية وحدها ولكن بالنسبة للسينما العالمية أيضا."



وبعد ما يزيد عن أربعة عقود تقريبا من ميعاد العرض الأول لفيلم الأرض، تعرض سينمات عيد الفطر (2014) فيلم الفيل الأزرق للمخرج مروان حامد والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب أحمد مراد (2012). ونجد اليوم أن السينما مرة أخرى تلعب دورها كوسيط بين عوام الجمهور والإنتاج الروائي المعاصر، ولكن هذه المرة بطريقة مختلفة. فالحكاية الغرائبية التي تتناولها الرواية وطريقة السرد السهلة التي يتبعها أحمد مراد مع عنصر التشويق الذي يمتلكه، جعلت الرواية على مدى سنتين تظل في قوائم الأكثر مبيعا في غالبية المكتبات ومحلات الكتب.



وهنا نجد أن ظاهرة استناد العمل السينمائي إلى عمل روائي قد اختلفت. فالسينما لم تأخذ رواية لم يسمع بها قطاع كبير من الناس وحولتها لفيلم يقلِب الموازين ويُحدث طفرة في الإبداع السينمائي. بل تم تحويل عمل روائي معاصر، مشهور، واسع الانتشار بالإضافة لترشحه للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر"، إلى فيلم سينمائي ضخم الميزانية تكلفته تزيد عن الثلاثة ملايين دولار. فالرواية عليها الكثير من الملاحظات التي انتبه إليها مجتمع القراء فور إتاحتها في المكتبات. حيث ينجلي للقارئ المطلع ضعف السرد والابتذال الذي وضح في استخدم اللغة بالاضافة لقيام عنصر التشويق بدور كبير في إخفاء هذه النواقص. ولكن كل هذه الملاحظات تختفي في السينما، ويظهر مكانها عوامل مختلفة تزيد من قوة العمل كالمؤثرات الصوتية وتقنية التصوير وانفعالات الممثلين والتي كلها ترفع من جودة عرض الحكاية.



ولا يجب هنا أن ننزعج لأن مخرج الفيلم أخذ رواية عادية من الناحية الأدبية وحولها لفيلم يُعد في الكثير من جوانبه أفضل من الرواية المأخوذ منها. ولكن ما أظن أنه يبعث على الانزعاج هو أن يعتبر النقاد هذا الفيلم علامة من علامات السينما الجادة. فأول ما يجعلنا ننفي هذا الادعاء هو غياب المعنى وراء العمل واختفاء القضية التي يحملها. فليس هناك في الرواية أو الفيلم إشكالية حقيقية، هناك أحداث مشوقة لحكاية تتلون بعوالم السحر والفانتازيا وما وراء الطبيعة. ولكن ليس هناك قضية يحملها العمل ويبرزها، بمعنى آخر، يعد الترفيه والتشويق هو الغاية الأساسية من وراء الرواية أو الفيلم. وقد نتفهم فرحة النقاد بعمل كهذا بعد عِقد من سيطرة الأعمال الكوميدية المبتذلة التي يقف وراءها منتجون ليس لهم علاقة بالعمل الفني والسينما سوى أموالهم. من الممكن تفهم أن تأخذ بعضهم الحماسة فيجعل الفيل الأزرق علامة من علامات السينما الجادة. من الممكن تفهم كل هذا، ولكنه لا يعني قبولنا لرأيهم على أي حال من الأحوال.

الخميس، 21 أغسطس 2014

الطاقة: بداية من ابن الحداد وصولًا إلى عازف الكمان!


إنني أجد الكتابة عن العلم مهمّةٌ يشوب ثناياها الارتباك والقلق، ويحيط بها شيءٌ من الغموض والقدسيّة. وعلى الرغم من أن بعضنا يظن بعدمية الحياة وفوضوية المسارات التي تتخدها، إلا أننا نستطيع أن نتلمس في قوانين كوننا الأساسية تناسقًا قادرًا على إبكاء العلماء. فقبل مائة عامٍ تقريبًا، كشفت معادلة، توحي بأنّها بسيطة، عن وحدة خفيّة مدفونة عميقًا في نسيج الكون وثناياه، حيث أنها تحدثت عن علاقة مدهشة بين الطاقة والمادة والضوء. إنها تعد أشهر معادلة في تاريخ العلم: E=m*c2. مكتشف هذه المعادلة هو الشاب ألبرت أينشتاين، والذي كان محبًّا للفيزياء والرياضيات والفلسفة وعزف الكمان، ويجد أن أي شيء غير ذلك يشوبه الملل. ومع أن معظمنا سمع عنها وعن أفكار أينشتاين وما توصل إليه، إلا أن قليلين منّا هم من يعرفون معناها. في الحقيقة، هذه المعادلة بالغة الأهمية لدرجة أنها أصابت أينشتاين بالكثير من التوتر والأرق، حيث أنه لم يكن واثقًا بشكل كامل من صحتها!

ولكن عقل أينشتاين، الذي كان يشوبه الشك في هذه اللحظات، ظل يردد بصوت مسموع، وعلى فمه شبح ابتسامة قلقة، خوفه من أن هناك قوى ميثولوجية تسخر منه. مما يجعلنا نرى كم كان أينشتاين متشكّكًا فيما توصل إليه. ولكن الأمر لم يكن يتعلق بالميثولوجيا أو أي أساطير من أي نوع آخر، بل بفكرة مذهلة استحوذت عليه كرؤى الصالحين، فعلماء آخرون من قبله استأثرت أيضًا فكرة الطاقة بعقولهم، وجعلتهم يكرسون حياتهم من أجل أن يصلوا إلى بعض من أجزاء المعادلة التي توصل إليها أينشتاين.

إن حكاية الطاقة ومعادلتها بدأت قبل أينشتاين بمدة طويلة، ففي بدايات القرن التاسع عشر لم يكن العلماء ينظرون للمسائل الفيزيائية من خلال مفهوم الطاقة، بل كانوا يرون الأشياء على أنها قوى منفصلة إحداها عن الأخرى وغير مترابطة. ففكرة أن يكون هناك نوع من الطاقة الرابطة بين القوى لم تكن قد اكتشفت بعد. ولكن هناك شخص واحد سيؤدي إلى تغيير فهمنا لكل هذه الأشياء ويجعلنا نرى الطاقة-هذا السر الغامض في الطبيعة-بطريقة مختلفة. فقد كان هذا الشخص في شبابه يكره عمله، حيث كان ابنًا لحداد ولم يكن متعلّمًا. ولكنه كان محظوظًا لأنه حصل على عمل في محل لتجليد الكتب. وعلى الرغم من كل ما كان يمر به من شظف العيش إلا أنه كان مولعًا بالاطلاع والمعرفة، حيث قرأ كل كتاب وقع بين يديه، حتى نمى بداخله شغف غير عادي بالعلم، ملأ كل أوقات فراغه وأنفق في سبيل تعلمه معظم ما كان يحصل عليه من راتب. هذا الشاب هو مايكل فاراداي. حيث كان بشغفه يخطو أولى خطواته في عالم الطاقة الخفي والغامض في ذلك الحين.

همفري وفاراداي

كان العلماء في العصر الفيكتوري من نجوم المجتمع، وينافسون في هذا الأدباء والفلاسفة والشعراء، حيث كانت محاضراتهم ذائعة الصيت كالعروض المسرحية. وكان من الطبيعي أن تجد صعوبة في الحصول على تذكرة حضور إحداها. بدأ السيد همفري – أبرز كيميائيٍّ في عصره – المحاضرة، التي تمكن فاراداي من حضورها، بالحديث عن الكهرباء، تلك التي كانت ما تزال غامضة في ذلك الوقت. وعلى الرغم من أن همفري كان عالمًا من الطراز الرفيع، إلا أن الكثيرين اعتبروا أن مايكل فاراداي هو أهم اكتشافاته. وعلى الرغم من أن فاراداي لم يكن يومًا من النبلاء، إلّا أنه بذل كل ما يمكن بذله حتى لا تقف الحواجز الطبقية في طريق طموحاته العلمية، فقد عمل ليل نهار كي يجعل ملاحظاته على محاضرات السيد همفري ديفي بين دفّتي كتاب، ثم أخذ هذا الكتاب وذهب به إلى همفري ديفي. وانتهى الأمر بإرسال السيد همفري له بعد فترة من هذا اللقاء كي يعمل معه بشكل مبدأي كمساعد مخبري في معمله. ولكن مع مرور الزمن استطاع التلميذ أن يتفوق على أستاذه.
كانت الكهرباء في تلك الأيام مثل صرعة. وعلى الرغم من اختراع البطارية وإجراء الكثير من التجارب، إلا أنه لم يكن أحد يفهم أو يدرك معنى القوة الكهربائية. حيث كانت غالبية المؤسسات الأكاديمية تظن أن الكهرباء أشبه بسائل يتدفق شاقًّا طريقه في أنبوب. ولكن في عام 1821 اكتشف باحث دنماركي يدعى هانز أورستيد: أننا عندما نمرر تيارًا كهربائيًّا في سلك ونضع بجواره بوصلة، فإن إبرة البوصلة ستنحرف. وكانت تلك أول مرة يثبت فيها الباحثون تأثير الكهرباء على المغناطيس. كانت هذه التجربة أول لمحة لقوتين كان يعتقد أنهما منفصلتان، وقد تبين أنهما متحدتان بطريقة لا تفسير لها.

هنا استدعى السيد همفري معاونه فاراداي إلى معمله لكي يرى التجربة، ربما كان في وسعه فهم الأمر، فقد كان فاراداي بمثابة الشرارة المضيئة لهم. وكان السؤال الذي يحاول الجميع الحصول على إجابته هو: إذا كانت القوة الكهربائية تجري داخل أنبوب، فلماذا إذًا لا تتحرك إبرة البوصلة في نفس اتجاه حركة التيار الكهرباء وبالتوازي مع السلك؟! كيف يمكن للتيار الكهربائي الذي يسير في اتجاه معين أن يجعل البوصلة تنحرف في اتجاه عمودي عليه؟ هنا ظهر بريق الشرارة المضيئة، ففي الوقت الذي كان فيه الجميع يتعلمون أن القوى تنتقل على هيئة خطوط مستقيمة بما فيها القوى الكهربائية، فإن فاراداي كان يرى غير ذلك. فقد كان يتصور أن خطوط القوى غير المرئية والتي تتدفق في شكل دائري حول سلك يمر به تيار كهربائي، تدفع إبرة المغناطيس في اتجاه عمودي بالنسبة لاتجاه حركة التيار الكهربائي الذي يمر داخل السلك.

ولم يكتف فاراداي بذلك، بل إن قفزته الحقيقية كانت في قلبه للتجربة رأسًا على عقب، فبدلًا من أن يشاهد إبرة مغناطيسية تنحرف عند وضعها بجوار سلك يمر فيه تيار كهربائي، تسائل إن كان في وسع مغناطيس ساكن موضوع في بركة من الزئبق وموصل ببطارية أن يتسبب في تحريك سلك مغموس في بركة الزئبق حول هذا المغناطيس. فكانت هذه هي تجربة العصر، وأساس اختراع المحرك الكهربائي. إن هذه البحوث التي قام بها فاراداي عن ما أسماه القوى غير المرئية حول سلك يمر فيه تيار كهربائي أدت إلى فهم جديد للطاقة وأطلقت ما يسميه أينشتاين الثورة الكبرى.
إن تاريخ العلم لم يقف عند هذه اللحظة فقط، فهناك من أحدثوا طفرات في أهمية ما أحدثه فاراداي. وهذه هي قيمة العلم. إنه يجعلنا ندرك أن في وسعنا فهم هذه الحياة وعيشها بشكل أكثر عمقًا واختلافًا عما كان يظنه من هم قبلنا. وإلى لقاء ومقال آخر عن العلم إن شاء الله.
http://www.ibda3world.com/energy-from-einstein-to-faraday/

تاريخية الإبداع .. عند موزارت وهيكل وتشيكوف



عندما تقرأ لتشيكوف والذي يعد علامة مفصلية في تاريخ القصة القصيرة، ستفهم لماذا ليس هناك اختلاف بين الأكاديميين على أهمية دوره في تطوير القصة القصيرة كشكل من أشكال الحكيّ الأدبي. فالرجل تناول شخوص وأحداث قد تبدو في الوهلة الأولى عادية وليس فيها ما يميزها، ليرتقي بها، بأسلوب أدبي هادئ، إلى مستوى أعلى من الناحية الأدبية.

والحال نفسه مع الكاتب والمفكر والأديب محمد حسين هيكل، والذي يعد أول عربي يكتب الرواية (زينب – 1914). والتي يعتبرها النقاد والمفكرين نقطة انطلاق الأدباء العرب في فن الرواية. على ناحية أخرى، تجد أن موزارت يعود له الكثير من الفضل في وضع أسس وخطوط عامة تتبعها من بعده موسيقيين جيله والأجيال التي تليه مثل بيتهوفن وغيره. ولا يختلف أحد على أن أهمية موزارت في الموسيقى لا تقل عن أهمية تشيكوف في القصة القصيرة أو أهمية هيكل في الرواية العربية.

ولكن حقيقةً الكثير من شباب القراء والكتاب والموسيقيين لا يميلوا لقراءة تشيكوف أو هيكل أو الاستماع لموزارت، حيث يجدوا أن أعمال هؤلاء العظماء يشوبها شيئا ليس هينا من الملل. وأصبح الكثير منا يتسائل عن سبب أهمية هؤلاء وكل التبجيل الواقع عليهم من الأكاديميين والنقاد.

وهنا يجب أن ننظر إلى مفهوم أهمية المبدع من زاوية مختلفة، حيث لا يقتصر الإعجاب والإشادة به من ناحية ما تحتويه أعماله وفقط، بل ومن ناحية الظرف الزمني والمكاني الذي استطاع فيه عقله أن يفرز هذه الأعمال. أي أن أهمية المبدع ليست أهمية فنية معاصرة لزمنه وفقط بل أحيانا يكون لأهميته بعدا تاريخيا لما مثله من دور في إحداث نقلة نوعية أو طفرة استثنائية في تاريخ التطور الإبداعي للعقل البشري.

ومن السهل ملاحظة أن تشيكوف وهيكل وموزارت كان لديهم غزارة في الإنتاج الإبداعي، وبالأخص عند تشيكوف وموزارت بالمقارنة مع عمرهم (موزارت 35 عاما - تشيكوف 44 عاما).  وهنا قدر قد يتبادر إلى الذهن سؤال عن غزارة الإنتاج وهل له ارتباط حتمي مع الابداع. وقد يجد البعض هذا السؤال أكثر تعقيدا من الإجابة عليه.
ولكنني أجد أنه من السهل أن نرد على هذا الاستفهام بالنفي عندما يلوح في ذهننا أعمال لأدباء وموسيقيين شحيحي الإنتاج كبيري الإبداع مثل إيرنان ريبيرا ليتيلير، وأمبرتو إيكو، وأنطونيو سكارميتا وراجح داوود. فهؤلاء المبدعين سواء كانوا أدباء أو موسيقيين، ليس لهم أعمال كثيرة كالتي قد تجدها عند الحاصلين على نوبل في الأدب، أو الموسيقيين الذين تعزف مقطوعاتهم في أكبر المسارح ودور الأوبرا في العالم. ولكن غالبية من قرأ لهم أو استمع إلى موسيقاهم لا يشك في حالتهم الإبداعية الإستثنائية.

إن المبدع صاحب الإنتاج القليل لم يفكر في شئ سوى أن يفعل مع يجد نفسه مدفوعا لفعله. ولطالما كان السؤال عن الشهرة وما يصاحبها من صخب يتردد في أعماق نفسه قائلا: هل هذا هو ما أريده حقا؟ هل هذا هو ما يجب أن أفكر فيه عند الكتابة أو تأليف الموسيقى أو الرسم أو النحت. أدعي هنا أن الإجابة كانت تخرج دائما بالنفي. فجلّ ما يفكر فيه المبدع هو الأُثر الذي سيتركه ولو في فرد واحد.
إن تشعب دروب الأإبداع لا بد أن يقودنا ليقين بفكرة أنه ليس هناك معيار بدرجات محددة علميا يمكن به قياس مدى تفرد الإنتاج الإبداعي لشخص بعينه عن باقي ما يُنتج في نفس مجاله. ليس هناك علامة على أنك تسير في طريق الإبداع وعلامة أخرى تدل على إنك انحرفت عنه.

فالمبدع يمر بمراحل صعود وهبوط فكرية، ليس تقدما حتميا للأمام كالتاريخ أو الاقتصاد في بعض مدارسه، وليس ميثولوجيا بها حقائق مطلقة. ولكنه شبكة معقدة للغاية من الطرق الملتوية والطويلة والمرهقة والتي أشبه بمتاهة، حيث من الصعب تحديد عدد طرقها أو نتاج اختيار السير في أحدهم. فقط المثابرة هي ما تجعل من المسافر في هذا الدرب من التعقيدات قادراً على اكتشاف قدره بنفسه، وهي ما تجعله قادرا على أن يقترب أكثر من النفس البشرية، ليتلمس آلامها، ولتنطبع في ذهنه، مفتتا ومعيدا تشكيل وعيه من جديد مئات المرات كي يمكن لإنائه أن ينضح بما هو إستثنائي وفريد كما يفعل المبدعين.