الخميس، 28 أغسطس 2014

الرواية التاريخية .. عند الأسواني ومراد وهشام الخشن





لطالما كانت قضية الدقة التاريخية للمحيط الذي تدور فيه أحداث عمل روائي إشكالية وموضع نقاش بين المؤرخين الذين يطالبون بالالتزام بالخط التاريخي من جهة، وبين الأدباء الذين يسعون في بعض الأحيان إلى التحرر من القيد التاريخي للأحداث معللين ذلك بوجهات نظر تدور حول أن من يكتب التاريخ هو المنتصر، وأن الأمر لابد أن يُترك للقارئ، هو الذي يفرق بين الصواب والخطأ دون وصاية من أحد عليه.



وقد لوحظ أن اهتمام الأدباء بخوض غمار تجربة كتابة الرواية التاريخية قد زاد في الفترة الأخيرة. خاصة، التجربة التي تتناول التاريخ القريب. ولكنني أود أن ألقي الضوء على بعض ما يخص ثلاث روايات صدرت في السنتين الأخيرتين، تنتمي إلى الرواية التاريخية وهي: نادي السيارات لـ علاء الأسواني (2013)، 1919 لـ أحمد مراد (2014)، جرافيت لـ هشام الخشن (2014). وقد اخترت هذه الأعمال الثلاثة لعدة أسباب، أهمها: أن ثلاثتهم يتناول فترة زمنية واحدة تقريبا، حيث تدور الأحداث قبل ثورة يوليو، تحديدا في الخمسين سنة الأولى من القرن العشرين. بالإضافة إلى أنهم يعتبروا من أحدث الأعمال التي صدرت وتنتمي لفئة الرواية التاريخية.



ففي رواية نادي السيارات، تدور الأحداث في عهد الملك فاروق وفي بيئة مكانية ضيقة نسبيا، يتناول الأسواني حياة الملك فاروق بالطريقة التي اعتاد المصريين أن يروه عليها في الافلام والمسلسلات. وربما يكون الأسواني قد أقام البحث التاريخي بدقة أوصلته لهذه الصورة فعلا –بغض النظر عمن كتب التاريخ ومتى- فالمشكلة لا تكمن في هذه النقطة وفقط، بل إن الأمر يمتد ليشمل كتابات الأسواني وطابعها. أي أن الأمر له علاقة أساسية بالقالب الروائي الذي يصر الأسواني على ألا يكتب خارجه شيئا. مشكلة القالب الروائي الخاص بالأسواني، والذي أراه مشوها ممسوخا، تأكد في هذه الرواية. حيث تم استخدام الجنس فيها بشكل مفرط، بالنفس الطريقة التي استخدم بها في عمارة يعقوبيان وشيكاجو. إن الأمر لم يعد قائما على الصدفة أو على تشابه الظروف الزمنية والمكانية التي تدور فيها أحداث العمل الروائي. فثلاثة أعمال للأسواني كل منها يدور في زمان ومكان مختلف عن الآخر تظهر فيهم جميعا الشخصيات مصابة بحالة من الهوس الجنسي التي تتنوع بين شهوة جارفة عند رجل أو امرأة لعوب أو رجل شاذ. وكأن ليس هناك أناس يعيشون حياة طبيعية جنسيا، وكأن الجميع قد أصابهم عقدة تستوستيرونية يصر الأسواني على أنها سمة أساسية في كل من يجب الحديث عنهم.



إن الأسواني يجب أن يعلم أن نجاح قالبه الروائي في عمارة يعقوبيان لا يعني بأي حال من الأحوال إضاعة وقت القارئ في أعمال أخرى ليس فيها أي شئ جديد على المستوى اللغة أو الحكاية. ولا أستطيع هنا اعتبار أن مزجه للجنس بالسياسة شفيع له كي يصيبنا في كثير من الأحيان بالاشمئزاز والنفور من وصفه المبتذل للمشاهد الجنسية. ولا أجد مبررًا يدعوه للتمسك بهذا القالب الروائي -مجازا- المهترئ سوى رغبته في المحافظة على إيرادات البيع. حيث روايته تجد للأسف صدى عند شريحة من القراء كنتيجة لعوامل كثيرة في مجتمعنا. إن القارئ العربي يقرأ الأدب من كل مكان في العالم، بداية من ديستويفسكي وتولستوي مرورا بهاروكي موراكامي و جورج أورويل وصولا لميلان كونديرا وماركيز ويوسا. إن القارئ العربي، والذي تزداد شريحته كل يوم، يستحق أدباء يحترمون ذوقه ويتقنون أعمالهم كي تنال إعجابه. إن القارئ العربي يستحق أفضل مما يقدمه الأسواني على أنه أدب.



أما عن رواية 1919، فهي نتاج ما يمكن أن يكتبه مراد عندما يخلع من على كتفيه رداء التشويق. فالعودة الزمنية لفترة سعد زغلول والتي هي معروفة لدى الكثيرين منا ومؤرخة بشكل جيد للغاية جعل الادعاء بأن مراد قد اجتهد بشكل مضني في بحث تاريخي شاق ادعائا مثيرا للكثير من علامات الاستفهام والتعجب. ماذا كانوا سيقولون لو كتب شيئا مثل سمرقند لأمين معلوف أو ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور. فمن السهل للغاية الحصول على معلومات تخص فترة سعد زغلول وما تلاها. وبالتالي من السهل أن يلتزم الروائي بالخط التاريخي للأحداث دون تشويه أو انحراف. ولكن كل هذا لم يكن شفيعا لمراد كي يخرج عملا جيدا، يمكننا فيه أن نجد أدبا وتشويقا وتاريخا ممزوجا بشكل متجانس. وعوضا عن ذلك، أصر على استخدام اللغة الركيكة والتي ظهرت بشكل كبير في السرد عندما غاب التشويق. بالإضافة لخروجه عن المسار التاريخي لحيوات بعض الشخصيات الحقيقية تحت هامش الضرورة الدرامية والتي لم أجد أن لها أي وجود في روايته.



ولم يتوقف انهيار العمل الروائي التاريخي عند هذا الحد، بل امتد ليشمل استدعاءه ألفاظ وشتائم معاصرة واستخدامها في واقع -لا تنتمي له نهائيا- كان موجودا منذ مائة عام تقريبا. إن ما كتبه أحمد مراد في 1919 هو ما يمكن أن يكون مزيجا للدعاية والتسويق وكتابات سابقة للكاتب ليس فيها من الأدب بقدر ما فيها مما يدعى اليوم بـ Pop Culture. حتى عندما حاول مراد أن يعود إلى الماضي لم يستطع مشروع الأديب بداخله أن يتغلب على كاتب سيناريو المسلسلات. ربما كان يجب عليه قراءة سمرقند، أو عزازيل، أو ثلاثية غرناطة. ربما كانت قراءته لهذه الأعمال تجعله يستعد بشكل حقيقي لكتابة عمل أدبي تاريخي، ربما كانت جعلته يضع مشروع الرواية التاريخية في مكانها وحجمها الصحيح.



هنا تأتي رواية جرافيت لهشام الخشن، لتنتشل الرواية التاريخية من هوس الجنس الذي أصابها في "نادي السيارات"، وابتذال اللغة والانحراف عن المسار التاريخي الذي أضاعها في "1919". فالخطوط الزمنية المتوازية والقصيرة التي تعالج حكاية عائلة مصرية عام 1928، دفعت الكثير من السأم عن القارئ، والذي كان من الممكن أن يصاب بالملل وعدم الرغبة في إكمال رواية تتحدث عن فترة زمنية تم تناولها في الكثير من الأفلام والمسلسلات، لو لم تكن كُتِبت بطريقة هشام الخشن. ومن السهل أيضا أن تلاحظ منذ البداية أناقة اللغة ورصانتها. فليس هناك ابتذال ولا ألفاظ وشتائم تحت بند الضرورة الأدبية. وهنا يجب أن أتوقف لأقول أنني لا أقف في صف ما يسمى بالرواية المحافظة (إن كان هناك شئ يسمى رواية محافظة)، ولكنني لا أتحمل العمل الأدبي الذي يبتذل في استخدام اللغة تحت داعي الضرورة الأدبية، والتي في كثير من الأحيان تكون ذريعة من أجل الكتابة دون اتقان وجهد ومثابرة.



إنني هنا لست في خضم معركة محاولا تفضيل عمل على آخر. ولكنها وجهة نظري، وما وجدته متأملا قارئا للأعمال الثلاثة. لم تقع جرافيت في فخ الجنس ولا في فخ تبسيط اللغة حد الابتذال من أجل المبيعات. وفي الوقت نفسه التزم الكاتب بالخط التاريخي للأحداث ولم تنحرف شخصياته في مسارات الأحداث التي مرت بها بعيدا عما حدث بالفعل في وقائع التاريخ. كان هذ الالتزام واضحا مع وجود شخصيات حقيقة كدرية شفيق وحسن البنا. بالطبع جرافيت بها عيوب كأي جهد بشري. فالرتابة التي كانت ظاهرة في نصف الرواية الثاني كانت جزءا من هذه العيوب. ولكن ألم تكن الرتابة واقعا يحياه الناس في هذه الفترة من الزمن؟ ما أود قوله أنه ما يمكن أن يكون عيبا في إيقاع الأحداث  قد يكون منتميا بشكل أو آخر إلى الحالة التي تحاول الرواية وصفها والانغماس فيها، وليس استسهالا من الكاتب أو ما شابه. فمن ناحية تناول الرواية للتاريخ بظروفه وتعقيداته: لم أجد بها عيوب أو ابتذال أو ما شابه.



إن ما أود قوله في النهاية هو: أنني وجدت جرافيت تتفوق على نادي السيارات و1919 من ناحية التناول الأدبي لوقائع التاريخ. وللغرابة فإن العملين الآخرين يتفوقان عليها في نسبة المبيعات. ربما هذا هو قدر غالبية من يبحث عن الجودة والاتقان. ربما أود هذه المرة أن يٌخيِّب القدر ظني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق