لم يكن لكثير من الأعمال الأدبية أن تشتهر وتأخذ موقعها في ذاكرة مجتمعنا إلا عندما قدمتها السينما. فهي أقرب الفنون إلى الإنسان العادي، أي الشخص الذي نادرا ما تجد أشكال الأدب والفن تشغل حيزا كافيا من وقته. وتزداد قيمة ما تنتجه السينما عندما تعتمد في بناء أفلامها على الأعمال الروائية الفريدة، ولا أقصد هنا الانتقاص من السيناريو السينمائي المخصص لعمل بعينه، ولكنه اعتراف بأن الأدب أسهم بشكل ليس بقليل في تطور الحكيّ في العمل السينمائي والارتقاء بذوق المشاهدين بعيدا عن الأعمال التي تهتم بإبراز العنف والمشاهد الجنسية من أجل زيادة إيرادات شباك التذاكر.
حيث تعمل السينما كوسيط بين الأعمال الروائية وعامة جمهور يميل إلى السينما لطبيعتها الحركية المشوقة، الديكورات، الموسيقى التصويرية والنجوم المحبوبين، في الوقت الذي لا يميل كثيرا للقراءة، خاصة وإن كان ما يقرأه يحتاج إلى شئ من التأمل. وبالتالي فإنه من الممكن القول بأن مجتمعاتنا تعد من أكثر المجتمعات التي تحتاج إلى أن تتبنى أعمالها السينمائية الأعمال الروائية. لتقوم بدورها كوسيط في نقل ما هو أدبي إلى ما هو سينمائي. فربما تكون هذه خطوة لدفع المجتمع في طريق القراءة والاطلاع.
ولم يكن لروايات نجيب محفوظ أن تنطبع في وجداننا كما هي عليه الآن، إن لم يتحول عدد كبير منها إلى أفلام سينمائية أشهرها "الثلاثية". فكانت السينما باستنادها إلى الأدب تفتح لنفسها وبنفسها دربا حقيقيا وراسخا يمكن أن نعتبره أرقى ما يعبر عن السينما الجادة. فمن طبيعة العمل الروائي أنه لا يكون مجرد سرد من أجل تسويد مئتي أو ثلاثمائة ورقة بالحبر، بل يحمل على عاتقه قضية تهم الروائي الذي هو جزء من حالة مجتمع بعينه. وعندما تنتقل هذه القضية من الكلمات إلى شاشة السينما يظهر للمشاهد كم أن الفنان الذي يقدم له العمل يشاركه آلامه وهواجسه، وأن هذا الفنان يتلمس ما يشغل فكر الناس ويؤرقهم. فيجعل المشاهد يشعر أنه ليس وحده، في وقت تزداد فيها ضغوطات الواقع وصعوبته.
وهذا ما نجد يوسف شاهين قد نجح فيه عندما حول رواية الأرض (1954) للكاتب عبدالرحمن الشرقاوي إلى فيلم سينمائي بنفس الاسم (1970)، والذي يعد ضمن أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما المصرية، حيث يمكنك أن تتلمس في كل تفاصيله قوة مسارات الأحداث التي كتبها الروائي، وعمق الرؤية التي يتمتع بها مخرج إستثنائي مثل يوسف شاهين. إننا نستطيع بكل بوضوح القول بأن فيلم الأرض هو من أكثر الأعمال التي يمكن أن تتبلور فيها فكرة السينما الجادة. هذه الحكاية التي تدور أحداثها في قرية من قرى مصر عام 1933 والتي تمتلئ بكل المشاكل التي أصابت الريف المصري في عهد الملكية والاستعمار البريطاني، قد أسهمت بشكل غير عادي في تشكيل وعي أجيال متتابعة من أبناء مجتمعنا. ولا أظن أن هناك الكثير من الأعمال التي من الممكن أن تباري هذا العمل في قدرته على التأثير بعمق في الوجدان الجمعي لمجتمع بعينه.
فقد قال عنه الناقد الفرنسي جان لوي بورمي في مجلة الابزرفاتور بعد عرضه في مهرجان كان السينمائي بفرنسا "إن الأرض ليس حدثا بالنسبة للسينما العربية وحدها ولكن بالنسبة للسينما العالمية أيضا."
وبعد ما يزيد عن أربعة عقود تقريبا من ميعاد العرض الأول لفيلم الأرض، تعرض سينمات عيد الفطر (2014) فيلم الفيل الأزرق للمخرج مروان حامد والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب أحمد مراد (2012). ونجد اليوم أن السينما مرة أخرى تلعب دورها كوسيط بين عوام الجمهور والإنتاج الروائي المعاصر، ولكن هذه المرة بطريقة مختلفة. فالحكاية الغرائبية التي تتناولها الرواية وطريقة السرد السهلة التي يتبعها أحمد مراد مع عنصر التشويق الذي يمتلكه، جعلت الرواية على مدى سنتين تظل في قوائم الأكثر مبيعا في غالبية المكتبات ومحلات الكتب.
وهنا نجد أن ظاهرة استناد العمل السينمائي إلى عمل روائي قد اختلفت. فالسينما لم تأخذ رواية لم يسمع بها قطاع كبير من الناس وحولتها لفيلم يقلِب الموازين ويُحدث طفرة في الإبداع السينمائي. بل تم تحويل عمل روائي معاصر، مشهور، واسع الانتشار بالإضافة لترشحه للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر"، إلى فيلم سينمائي ضخم الميزانية تكلفته تزيد عن الثلاثة ملايين دولار. فالرواية عليها الكثير من الملاحظات التي انتبه إليها مجتمع القراء فور إتاحتها في المكتبات. حيث ينجلي للقارئ المطلع ضعف السرد والابتذال الذي وضح في استخدم اللغة بالاضافة لقيام عنصر التشويق بدور كبير في إخفاء هذه النواقص. ولكن كل هذه الملاحظات تختفي في السينما، ويظهر مكانها عوامل مختلفة تزيد من قوة العمل كالمؤثرات الصوتية وتقنية التصوير وانفعالات الممثلين والتي كلها ترفع من جودة عرض الحكاية.
ولا يجب هنا أن ننزعج لأن مخرج الفيلم أخذ رواية عادية من الناحية الأدبية وحولها لفيلم يُعد في الكثير من جوانبه أفضل من الرواية المأخوذ منها. ولكن ما أظن أنه يبعث على الانزعاج هو أن يعتبر النقاد هذا الفيلم علامة من علامات السينما الجادة. فأول ما يجعلنا ننفي هذا الادعاء هو غياب المعنى وراء العمل واختفاء القضية التي يحملها. فليس هناك في الرواية أو الفيلم إشكالية حقيقية، هناك أحداث مشوقة لحكاية تتلون بعوالم السحر والفانتازيا وما وراء الطبيعة. ولكن ليس هناك قضية يحملها العمل ويبرزها، بمعنى آخر، يعد الترفيه والتشويق هو الغاية الأساسية من وراء الرواية أو الفيلم. وقد نتفهم فرحة النقاد بعمل كهذا بعد عِقد من سيطرة الأعمال الكوميدية المبتذلة التي يقف وراءها منتجون ليس لهم علاقة بالعمل الفني والسينما سوى أموالهم. من الممكن تفهم أن تأخذ بعضهم الحماسة فيجعل الفيل الأزرق علامة من علامات السينما الجادة. من الممكن تفهم كل هذا، ولكنه لا يعني قبولنا لرأيهم على أي حال من الأحوال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق