الخميس، 23 أكتوبر 2014

هشام الخشن .. هل لم يلوِّن جرافيت

نوال‮: ‬بطلة رواية جرافيت‮(‬2014‮) ‬،‮ ‬آخر أعمال الروائي هشام الخشن،‮  ‬كانت تمتلك حسا فنيا مدهشا واستثنائيا،‮ ‬وتعشق الرسم ولكنها لا تلون لوحاتها أبدا‮. ‬فهل اتبع هشام الخشن نوال في مزاجها الفني ولم‮ ‬يلوِّن روايته؟ دعونا نستكشف ذلك‮:‬
فالخطوط الزمنية المتوازية والقصيرة التي تعالج حكاية عائلة مصرية عام‮ ‬1928،‮ ‬دفعت الكثير من السأم عن القارئ،‮ ‬والذي كان من الممكن أن‮ ‬يصاب بالملل وعدم الرغبة في إكمال رواية تتحدث عن فترة زمنية تم تناولها في الكثير من الأفلام والمسلسلات،‮ ‬لو لم تكن كُتِبت بهذه الطريقة‮. ‬ينطلق الكاتب في روايته بحس فني راقٍ‮ ‬ونمط وصفي من الصعب ألا تشعر معه بحيوية شخوص الرواية،‮ ‬والذي كان موفقا في اختيار رابط العائلة بينهم،‮ ‬خاصة وأنه كان الرابط الأكثر منطقية في الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية‮. ‬
من السهل أيضا أن تلاحظ منذ البداية أناقة اللغة ورصانتها‮. ‬فليس هناك ابتذال

ولا ألفاظ وشتائم تحت بند الضرورة الأدبية‮. ‬وهنا‮ ‬يجب أن أتوقف لأقول أنني لا أقف في صف ما‮ ‬يسمي بالرواية المحافظة‮ (‬إن كان هناك شئ‮ ‬يسمي رواية محافظة‮)‬،‮ ‬ولكنني لا أتحمل العمل الأدبي الذي‮ ‬يبتذل في استخدام اللغة تحت داعي الضرورة الأدبية،‮ ‬والتي في كثير من الأحيان تكون ذريعة من أجل الكتابة دون اتقان وجهد ومثابرة‮.‬
ومن الملاحظ،‮ ‬أن الراوي الفوقيّ،‮ ‬والذي‮ ‬يراه ماريو برجاس‮ ‬يوسا‮ ‬يأخذ دور الإله زيوس،‮ ‬قد‮ ‬غاب‮ ‬
في هذا العمل في أوقات كثيرة‮. ‬ربما كانت رغبة من الكاتب كي‮ ‬يعطي الفرصة لشخصياته أن تعبر عن نفسها دون وسيط‮. ‬ولكن هذا الراوي الفوقي‮ (‬زيوس‮) ‬ظل متمسكا بدوره في الوصف لكل شئ تقريبا،‮ ‬بداية من تفاصيل ملامح شخصيات العمل وحتي الوضعية التي تجلس فيها نوال‮.‬
ولا‮ ‬يعني ما قلته أن العمل‮ ‬يتصف بالكمال،‮ ‬لا‮ ‬يوجد جهد بشري‮ ‬يتصف بالكمال‮. ‬والعمل الروائي حاله كحال أي جهد بشري‮. ‬فالشعور بانتظار ما ستأتي به أحداث الرواية والذي كان سمة النصف الأول،‮ ‬أي قبل أن تعود نوال من بعثتها في فرنسا،‮ ‬تضاءل بشكل كبير في النصف الثاني من العمل،‮ ‬حيث أخذت الأحداث منحي تقليدياً،‮ ‬خصوصا بعد زواجها من ابن عمها‮. ‬فأصبح مسار الرواية‮ ‬يقترب من الرتابة‮. ‬
ولهذا تسا ءلت في بداية المقال‮: ‬هل لم‮ ‬يلوِّن هشام الخشن روايته‮! ‬مثلما كانت تفعل نوال مع لوحاتها؟ ربما هي محنة جلوس الأديب أمام الورق الأبيض دون اكتمال حبكة العمل‮. ‬وهي أزمة تواجه الكثير من الروائيين في منتصف أعمالهم‮. ‬وهي صحية وجيدة في أحيان كثيرة،‮ ‬لأنها دليل علي أن الكاتب متشكك فيما‮ ‬يكتب،‮ ‬أي أنه‮ ‬يسعي لما هو أفضل‮. ‬ربما الرتابة التي شعرت بها كقارئ من الممكن اعتبارها إسقاطا من الكاتب علي طريقة الحياة التي كانت تحياها نوال في بيئة منغلقة في ذلك الوقت‮.‬
لم تقع جرافيت في فخ الجنس ولا في فخ تبسيط اللغة حد الابتذال من أجل المبيعات‮. ‬وفي الوقت نفسه التزم الكاتب بالخط التاريخي للأحداث ولم تنحرف شخصياته في مسارات الأحداث التي مرت بها بعيدا عما حدث بالفعل في وقائع التاريخ‮. ‬كان هذا الالتزام واضحا مع وجود شخصيات حقيقية كدرية شفيق وحسن البنا‮. ‬
ولهذا‮ ‬يجب إن أقول أن كاتب رواية جرافيت احترم القارئ بجهده الواضح‮. ‬وإن كنّا قد رغبنا في أن‮ ‬ينتهي العمل‮ ‬بنفس القدر من الحيوية التي بدأ بها‮. ‬‮ ‬

أعظم ثلاث ورقات في تاريخ العلم

في نهاية المقال السابق قلنا كم كان عام 1905 عامًا ليس مشهودًا فقط بالنسبة لأينشتاين، بل أيضًا للفيزياء. ففي ستة أشهر من ذلك العام نشر أينشتاين أربع ورقات بحثية، واحدة منها جعلته يحصل على نوبل وأخرى كانت تحتوي على نظرية النسبية الخاصة التي غيرت نظرتنا للكون.
ولكن عام أينشتاين المشهود لم ينته عند هذا الحد، فقد نشر بحثًا خامسًا، وهو آخر ورقة بحثية له في عام 1905. وفي هذا البحث قدم أينشتاين أطروحة أعمق من كل ما سبق، فخلال عمله على أوراقه البحثية الأربعة السابقة، لاحظ أينشتاين علاقة غريبة تجمع بين الطاقة والكتلة والضوء.
فقد وجد أينشتاين أن سرعة الضوء تمثل السرعة النهائية لحركة الأشياء في الكون، ولا شيء يمكن أن يتجاوزها. ويمكن تخيل الأمر لو ضربنا مثالًا بقطار منطلق بسرعة الضوء، وها نحن نحاول تزويده بالطاقة لنجعله يسرع أكثر فأكثر. لكن ما نلاحظه أن القطار ما زال لا يتخطى سرعة الضوء! فأين تذهب إذن هذه الطاقة التي يكتسبها القطار؟ المدهش أن أينشتاين قال أن الطاقة المكتسبة في هذه الحالة تختزن على هيئة كتلة إضافية في جسم القطار ذاته. وبهذا يرى أينشتاين أن كتلة القطار ستصبح أكبر لأن الطاقة الإضافية قد تحولت إلى كتلة!
إنها حقًّا فكرة عجيبة، حتى أن أينشتاين ذاته قد ذهل بها. فالوصول إلى أن الطاقة والكتلة لم يكونا يومًا شيئين مختلفين ولكنهما صورتان لأصل واحد تربطهما علاقة رياضية بسرعة الضوء هو شيء يثير الشكووك والقلق والذهول. وقد أرسل أينشتاين ورقته البحثية الخامسة عام 1905 للنشر والتي كانت عبارة عن ثلاث صفحات فقط، وهي تعد أعظم ثلاث صفحات في تاريخ الفيزياء والعلوم، فبها أثبت أينشتاين وأوضح للعالم أن الطاقة تساوي الكتلة ضرب مربع سرعة الضوء E=mc^2.

وبهذا تمكن موظف مكتب براءات الاختراع من تأليف لحن كوني جديد. كانت أوراقه البحثية الخمسة في عام 1905 هي حصيلة عشر سنوات من رحلة مطاردته للضوء. فطوال أربعة آلاف عام كنّا نظن أن عالم الأجسام “المادة” وعالم الحركة “الطاقة” عالمان منفصلان. ولكن أينشتاين جاء ليقول لا، إنهما ليسا منفصلين، فالطاقة يمكن أن تتحول إلى كتلة، والكتلة يمكن أن تتحول إلى طاقة.
إن هذا يكشف لنا عن وحدة عميقة بين مكونات الكون الذي نحن جزء منه. فبعد معادلة (الطاقة تساوي الكتلة ضرب مربع سرعة الضوء) توقف الفيزيائيون عن الحديث عن الطاقة والكتلة بكونهما شيئان منفصلان مختلفان، لأنهما قد أصبحا تبعًا لمعادلة أينشتاين الشيء ذاته. فقد تبين أن كل جزء من المادة في الكون يختزن بداخله كمية مذهلة من الطاقة. وهو شيء يدعونا للتساؤل من جديد حول ماهية المادة؟ وستكون الإجابة تبعًا لما توصل إليه أينشتاين بمعادلته الإعجازية أن المادة ما هي إلا تكثيف شديد لكمية هائلة من الطاقة! فلو تمكنا من تحرير كل الطاقة المختزنة في قلم الرصاص الذي أكتب به مسودة هذا المقال مثلًا، سيؤدي ذلك إلى إطلاق قوة تتشابه للغاية مع قوة القنبلة النووية! وهو شيء لم يمكن متخيلًا حتى في ذهن أينشتاين وهو يعمل على ورقته البحثية الخامسة.
الملفت للانتباه، أن أعظم سنة في تاريخ العلوم قد انتهت إلى صمت مطبق. فقد نُشِرت الأوراق البحثية والمقالات من دون أن تعطي أي صدى، ثم بدأت الأمور تتحرك، رسالة من هنا واستفسار من هناك، وطوال أربع سنوات راح أينشتاين يجيب عن كل تساؤل بجدية وأمانة محاولًا شرح أفكاره الصعبة المعقدة لعلماء الفيزياء. وفي هذه المدة ظهر معجبٌ واحدٌ بأفكار أينشتاين، ولحسن الحظ، كان هذا المعجب هو أهم فيزيائي ذلك العصر: البروفيسور ماكس بلانك. فقد تحمس ماكس بلانك لأفكار أينشتاين وتعامل معها بجدية، وكان نتيجة ذلك أن عيّن أينشتاين أستاذًا للفيزياء في جامعة زيورخ، ومن هنا انطلقت شهرته ونُصّب بعدها أستاذًا للفيزياء في برلين ليحقق شهرة عالمية ويصبح علما في بلاده. وبهذا أصبح أينشتاين أبا الفيزياء المعاصرة بلا منازع.

لقد وجد علماء الفيزياء في معادلة (الطاقة تساوي الكتلة ضرب مربع سرعة الضوء) الكأس المقدسة للعلوم. فهذه المعادلة أنبأت بمخزون الطاقة الهائل الكامن في الذرة. وقد ظن أينشتاين أن البدأ في سبر أغوار هذه الأفكار ربما يحتاج إلى مئة سنة من البحوث. ولكن العالم الشاب المسالم لم يكن ليتوقع أن الأمور ستسير بوتيرة أسرع مما توقع بكثير، وهي حكاية تحتاج إلى مقال آخر.

http://www.ibda3world.com/the-greatest-3-scientific-papers-in-history/

الاثنين، 6 أكتوبر 2014

خيالات الضوء في مكتب براءات الاختراع


راح أينشتاين يطارد الضوء خلال وبعد المرحلة الجامعية. ولسوء الحظ، راح يضايق أساتذته بأسئلته إلى حدّ أنهم جميعًا رفضوا إعطاءه تزكيات لاستكمال دراسته. وفي رسالة لأحد أصدقائه وصف الشاب ألبرت أينشتاين نفسه بأنه مهمل وانعزالي وغير محبوب. وكان ينظر إليه العقلاء من الناس على أنه شخص بليد. وبعد تخرجه من الجامعة وجد نفسه على خصام وشحناء بشكل دائم مع الأوساط الجامعية والعاملين فيها، فأحبطه ذلك بشدة، وأصبح من سيكون أهم عالم في تاريخ العلم مُغرَقًا في التبطل والكسل. ولهذا، قبل أينشتاين وظيفة قليلة الأجر في مكتب تسجيل براءات الاختراعات السويسري.

كانت حياته بعد زواجه من صديقته الجامعية صعبة وقد كافحا كثيرًا. ولكن كل هذا لم يكن ليضايق ألبرت أبدًا. فهناك شيء لافت للنظر في طبع أينشتاين، وهو أنه كان متمركزًا حول ذاته. كان لا يبالي إلا بما يستحوذ عليه من أفكار، ولا يهتم كثيرًا بمن حوله. كان صديقه ميشيل بيسو يعرف أن أينشتاين يحب النظريات الكبيرة والعلاقات الكلية، ولكنه كان يرى أن أينشتاين يجب أن يهتم بالحصول أولًا على وظيفة جامعية لينال بها راتبًا محترمًا وتتمكن زوجته وزميلته من العودة للدراسة من جديد. لم يكن هذا الكلام ينال استحسان أينشتاين، فقد كان يرى صديقه يتكلم مثل البرجوازيين عن الكدح من أجل البقاء والطعام والمال.

أراد أينشتاين أن يعلم الكيفية التي نشأ بها الكون. لم يكن مهتمًّا بالتفاصيل المحصورة في نطاق عنصر ما أو ظاهرة بعينها. كان يريد أن يعرف ديناميكية المنظومة الكلية للكون، وفي هذه الحالة سيكون الباقي مجرد تفاصيل. وعلى الرغم من اختلاف وجهات نظر كل من أينشتاين وبيسو عن الحياة، إلا أنهما كانا دائمًا ما يتحدثان في كل ما له علاقة بالفيزياء والفلسفة على مدار سنوات دراستهما وما بعد تخرجهما. كانا صديقين حميمين، ولقد حاصرا بنقاشاتهما مسألة الضوء من كل زاوية ممكنة.

وبينما كان أينشتاين وبيسو يتساءلان كم يستغرق الضوء ليصل إلينا من مختلف المسافات، لمعت في رأس أينشتاين رؤية هامة. هذه الرؤية قلبت المسألة رأسًا على عقب في ذهن أينشتاين. كان العلماء يجدون أنه من المستحيل قبول فكرة ماكسويل حول أن الضوء يبتعد عنك بسرعة 670 مليون ميل في الساعة حتى لو كنت تنطلق بسرعة فائقة تقترب من سرعة الضوء. ولكن أينشتاين تقبل حقيقة أن سرعة الضوء لا تتغير أبدًا، وما فعله بعد ذلك هو أنه أخضع كل ما نعرفه عن الكون ليناسب سرعة الضوء الثابتة. ما اكتشفه أينشتاين كان يعني أننا لكي نخضع الكون لثابت سرعة الضوء فإن علينا أن نبطئ من سرعة الزمن! كان اكتشافه الكبير أن الزمن سوف يتباطأ ونحن نقترب من سرعة الضوء.

في حقيقة الأمر، إن أينشتاين بطريقة التفكير هذه قد غير نظرتنا كليًّا إلى الكون الذي نحن جزء منه. ففي اللحظة التي توصل فيها أينشتاين إلى اكتشافه عن الزمن وقابليته للتباطؤ، بدأت بوابة الاكتشافات تنفتح أمامه. فقبل ذلك كان الناس يعتقدون أن الزمن أشبه بساعة كبيرة تدق في كافة أرجاء الكون بنفس المقدار أينما كنت. ولكن أينشتاين جاء ليقول لهم أن هذا الاعتقاد خاطئ، وأن دقات الساعة في الحقيقة ما هي إلّا موجات الضوء الكهرومعناطيسية، التي تتحول فيها الكهرباء إلى مغناطيس ومن ثم المغناطيس يتحول إلى كهرباء مرة أخرى. بمعنى آخر، جاء أينشتاين ليقول أن الزمان والمكان يخضعان كليًّا لسرعة الضوء الثابتة.

كان عام 1905 عاما مشهودًا وتاريخيًّا لأينشتاين والفيزياء، ففيه بدأ يتشكل عطاؤه الخلاق والاستثنائي. بدأ ذلك العام بنشره ورقة بحثية حول كيفية معرفة حجم الذرات الحقيقي، وبعدها بشهرين نشر بحثه حول طبيعة الضوء، هذه الورقة البحثية هي التي أدت إلى حصوله على جائزة نوبل، وبعد ذلك بشهر نشر الورقة البحثية الثالثة وكانت عن كيفية حركة الجزيئات عندما تتعرض للنار، وهذا البحث هو ما وضع حدًّا للجدل حول حقيقة وجود الذرة. أما الورقة البحثية الرابعة التي نشرها بنهاية هذه الأشهر الست، فقد وضع فيها أينشتاين نظريته حول الضوء والزمان والمكان، كانت تلك هي النظرية النسبية الخاصة التي غيرت نظرتنا إلى العالم.

 وأصبحنا بذلك أمام عالم جديد، وهو عالم الباحث الشاب الذي يبلغ من العمر ثلاثين عامًا ويدعى ألبرت أينشتاين. عالم كان الزمان والمكان فيه متغيران، ويخضع كل ما في الكون تحت مظلة سرعة الضوء الثابتة. ولكن هل هذه هي نهاية الحكاية؟ بالطبع لا، فدعونا نستكشف ما الذي سيأتي بعد ذلك في المقال القادم.

http://www.ibda3world.com/einstein-chasing-light-at-the-patent-office/