الاثنين، 28 أبريل 2014

الخِمار المهلهل



الخمار



كانت كل ليلة، في التاسعة تقريبا، تمر في ذلك الشارع المزدحم بالمحال والنساء والرجال. من يبحث عن حذاء .. قميص .. سروال .. هناك أيضا من يبحث عن مستلزمات الزواج .. الهدايا .. وكأن احتياجات المدينة كلها قد أصبحت في هذا الشارع. أما هي .. بخمارها المهلهل المتسخ ونقابها الأسود المهترئ الذي لا يظهر منه سوى عينيها التي تنضح بالأسى، يجعلها لا تبدو أنها قد أتت إلا من أجل شئ واحد فقط.
كانت تفتح يدها اليسري منبسطة تطلب ما يلقيه إليها المارة من قطع نقود معدنية لا تتجاوز قيمتها الجنيه الواحد. وعلى ظهرها تحمل ابنتها التي لم تكن قد تجاوزت العام. وفي هذه الليالي التي تمتلئ بالبرد القارس في شتاء ديسمبر كان يراها كل يوم وهي تمر أمامه. بنفس الخمار .. نفس الحذاء الممزق .. نفس الهيئة .. تنظر إليه نظرة خاطفة وتبعد عينيها عنه سريعا. كان يراها تطلب من الناس كلها إلا هو. فدخل إلى قلبه التساؤل والتعجب وكان مرورها اليومي دون كلل أو ملل أو تعب ما يزيد من تعجبه.
تمُر .. تنظر بشكل خاطف .. تشيح بوجهها عنه .. تستمر في السير .. تمُر ثلاث أو أربع مرات في الليلة الواحدة أمامه .. يقف هو أمام المحل ينظر إلى الطريق والناس .. يتأمل أحوالهم .. انفعالاتهم … يحاول النفاذ لأرواحهم .. أحيانا ينجح وغالبا ما يفشل .. ولا يعود إلى داخل المحل الذي يعمل فيه إلا إن كان هناك مشتري يريد شيئا ما..
وكالعادة عندما كانت تمر في ليلة من ليالي الشتاء المتعاقبة، والتي تشعر مع تكرارها أنها لن تنتهي، خطى فوق الرصيف خطوة. وبعد أن مرت من أمامه، أسرع خطوتين وراءها ولمس كتفها مُنبِهاً. التفتت في شئ من الخوف .. نظرت إليه نظرة متحيرة .. لاحظ ذلك من اتساع بؤبؤ عينيها .. ابتسم ببساطة .. وضع في يديها قطعة نقود معدنية وابتسم ابتسامة مُطمئِنة ثم التفت وعاد إلى المحل مسرعاً .. في ماذا كانت تفكر يا ترى .. حاول أن يصل لشئ ولكنه لم يستطع .. لم يكن يظهر على عينيها الكهولة ولم يكن جسدها النحيف يعطيها عمراً يتعدى الثلاثون ربيعاً. حاول أن يطردها من عقله ولكنه لم يستطع. قرر أن يسئلها. عن أي شئ! لم يكن يعلم. ولكن هناك شئ بداخله يربطه بهذه المرأة.
وفي اليوم التالي أيضا وكالعادة كانت تمر .. هذه المرة لم تنظر لعينيه قط .. مرت بجانب الرصيف وتخطته كأنه ليس موجوداً .. تبعها مسرعاً .. لمسها من كتفها بنفس طريقته بالأمس .. التفتت .. نظرت .. سمع من صوتها محاولات كلام تائهة .. توقفت محاولاتها .. سكتت ..
حاول أن يتخلص من صمته .. فقال وهو يضع في يديها ورقة مالية من فئة العشرين جنيه: الوقت متأخر الآن ولن تجدِ أحد يمر في الطرقات وإن وجدتي فلن يكون عددهم أكثر من أصابع اليد الواحدة وها أنا أعطيكي ما قد تناليه فيما تبقى من الليلة إن كنتِ صاحبة حظ جيد ..
ابتسمت .. لم ير ذلك على شفتيها ولكن لاحظه في عينيها .. هزت رأسها .. وردت بكلمة واحدة: شكرا .. والتفتت تُكمِل طريقها فحاول أن يستبقيها ولو لدقيقة أخرى ..
قال: كما اتفقنا لا استمرار في السير في الطرقات في هذا البرد ..
فقالت: حسنا .. لا استمرار في السير ..
فأكمل: الذهاب اللي بيت والانغماس في الفراش ..
فرددت وراءه بصوت يشي ببهجة خائفة ..
فابتسم لها وقال: ألن تدعو لي ..
فقالت: دعوت لك بقلبي ..
صدمته مفاجأة الرد وشجعته، قال: كنت ألاحظ أنكِ لا تطلبين مني كما تطلبي من غيري عندما تمري بالشارع ..
نظرت إلى الأرض .. لم تسعفها الكلمات للحظات ثم قالت : لإنني لم أنظر إليك كمانح للمساعدة ولو مرة واحدة .. دائما ما كنت شيئا آخر غير ذلك .. تلعثمت ولم تكمل .. سكتت وتركته .. مشت سريعا .. نادى عليها ولكنها لم تقف ..
ماذا كانت تعني بهذه الكلمات .. ظل يسأل نفسه طويلا ولكنه لم يصل لشئ .. في اليوم التالي لم تمر .. واليوم الذي يليه .. واليوم الذي يليه أيضا .. مرت ستة أشهر ولم تعد تمُر .. فكر كثيراً في كلماتها .. هل كانت تنظر إليه بإعجاب .. تعجب من هذه الفكرة التي باغتته فجأة. ثم تعجب من تعجبه منها .. أليست إنساناً .. يشعر ويحب ويميل ويمتلك عاطفة. أم لكونها طالبة للمساعدة لضيق يدها أصبحت جماد في نظرنا لا تشعر ولا تملك أن تشعر.. كم نحن أنانيون نفكر في أنفسنا وفقط ..
كانت تراه أكثر من مانح للمساعدة .. كانت تراه كإنسان .. تميل إليه كإنسانة .. وإن كان يقف بينها وبينه كونها متسولة في نظر البعض .. متطفلة ومتبجحة في نظر البعض الآخر .. كانت نظراتها له خاطفة لإنها لم تكن تملك غيرها ولا تريد له أن يشعر بأكثر من ذلك التساؤل دون إجابة .. كانت امرأة .. تتصرف معه كامرأة .. تشعر كامرأة .. ولكن معه هو فقط .. سأل عنها .. عرف أن زوجها قد مات وليس لديها سوى تلك البنت التي تحمِلها على ظهرها، ولم يتقدم أحد للزواج منها لأنها لم تكن قادرة على الانجاب بسبب مشاكل حدثت لها في ولادتها الوحيدة.
ظل طيفها يأتيه على فترات متقطعة .. لم يزل يشعر بالدهشة من تلك الحادثة التي قد يشعر البعض أنها عابرة .. فكر كثيرا فيها .. كلما تذكر ما خمنه حدسه اتجاه مشاعرها شعر أن حياتنا ليست إلا واجهات زجاجية لامعة لمحال خالية على عروشها من أي شئ أصيل .. فلم يعد يهمنا ما بداخل المحل .. المهم أن تكون واجهاتنا أمام الآخرين تلمع وتتزين بكل ما هو مشرف .. حتى لو كانت حقيقتنا أشد سوءاً بكثيرا من هذه الواجهات .. شعر أن هذه المرأة ومن على حالها هم الذين يكشفون جحودنا وجمودنا .. إهمالنا لهؤلاء هو خطيئتنا التي تكشف لنا عوراتنا .. هؤلاء يحتاجون منا ما هو أكثر من النقود .. هؤلاء يحتاجون منا حباً خالياً من الشفقة.

السبت، 19 أبريل 2014

قلم خوسيه مياس


وتذكرت ذات يوم وأنا عائدا من المدرسة .. وجدت منطقة عمل محاطة بسياج حديدي وقد علق العمال فانوس لكي ينبه المارة لأي خطر. لم يكن يوجد أحد غيري في الشارع فأخذت حجرة وقذفتها على الفانوس فسقط على الأرض منكسرا. وفي تلك اللحظة ظهر أمامي رجل وسألني لماذا فعلت ذلك. فنظرت له دون أن أجيب وفي النهاية قام بعمل إشارة لوم واختفى.
لماذا فعلت ذلك؟ ربما لأن والديّ كانا يقضيان الحياة في نزاع دائم، ربما لأنني كنت الأخير في الفصل، ربما لأننا كنا فقراء كالفئران، ربما لأننا كنا دائما نتعشى السلق، ربما لأنه لم يكن لدي قفازات لأتجنب برد الأصابع، ربما لأنني خلال تلك السنوات لم أرتد مطلقا قميصا وبنطلونا وحذاء وسترة جديدة، ربما لأن الله لم يظهر لي. إنني الآن وأن أتذكر ما حدث أستطيع أن أملأ صفحات “بربما” .. ولا أحد سوف يجعلني أتوقف.

كان هذا مقطعا من رواية العالم (El mundo) للكاتب الأسباني خوان خوسيه مياس. يسهل على أيّ منّا بالتأكيد أن يتلمس الحزن والسخط في كل كلمة من كلمات هذه الفقرة. هذا الرجل وخصوصا في هذه الرواية التي يقترب فيها من سيرته الذاتية بشكل به الكثير من الصدق لدرجة تدعو للتأمل. ولا أقصد بالصدق هذا الذي نختبره من خلال تأكدنا إن كانت الأحداث حقيقية بالفعل أم هي من نسج خيال الكاتب. إنما هو صدق المشاعر التي كتب بها هذا العمل. ما كل هذا الشجن الهادئ الذي يملأ قلمك يا مياس. هذه التلقائية في الكتابة عن ذاته وكأنه أراد أن يتخلص من حمل ثقيل، وكأنه وجد أنه لن يستطيع أن يكتب عن أي شئ آخر إن لم يتخلص من ذاته بالكتابة عنها.

يكتب مياس عملاً تستطيع أن تجد فيه ما يجعلك تشعر أنك لست وحيداً في هذا العالم الذي يمتلئ بالحمقى. وأن هناك من يشاركك ألمك وغضبك، هناك من يشاركك إحباطك وخوفك وفشلك. هذه الشحنة من المشاعر التي كتب بها مياس هذا العالم الفني الاستثنائي ليست شحنة مصطنعة لمحاولة إفراز حبكة درامية. هذا الرجل استطاع أن يتعدى حدود الكلمات، فتجد صورته وهو في صغره قد ترسخت في مخيلتك واضحة، تشعر بكل ما حدث معه كأنك تراه كاملا. ثم تعود لتراه وهو يتحدث عن نفسه أثناء كتابته لهذه الرواية، فيتوقف في منتصف حكايته ويقول: إنني أكتب في السادسة صباحا وهذا هو نفس الوقت الذي هربت فيه من الأكاديمية لأول مرة.

 تنغمس كليا في حكايته ولا تستطيع منع خيالك من الإنتقال في الزمان والمكان إلى حيث كانت الأحداث. ثم يحدث ما لم تكن تتوقعه، وبدون أي مقدمات تجد أن صورة مياس الطفل والكاتب تتلاشى من ذهنك ويحل بدل منها صورتك أنت. فتعيش قصة مياس كأنها قصتك أنت، وتمتلئ بألمه كأنك أنت من أصابك الألم، وتستشعر صعوبة الكتابة عن الذات وراحتها في الآن نفسه كأنك من يكتب هذا العمل.

وأما المقطع الذي وضعته في بداية المقال فقد قرأته وأنا استمع مصادفة لمقطوعة موسيقية من فيلم يدعى – Landscape in The Mist – لمؤلفة موسيقية يونانية تدعى إليني كاريندرو – Eleni Karaindrou  - ولم أجد نفسي قادرا في ذلك الوقت على فعل أي شئ سوى أن أمسح كل المقطوعات الأخرى من قائمة التشغيل وترك المقطوعة تتكرر وأنا أكرر معها قراءتي لهذه الفقرة الممتلئة بالبساطة والعمق والواقعية المؤلمة. كان الغريب حقا في هذه المقطوعة الموسيقية أنني لا أشعر متى تبدأ بالضبط ومتى تصل لنهايتها. وكأن الكون كله قد تجسد في هذه المقطوعة. فهل للكون نهاية !

لم أتوقف عن قراءة الفقرة ولا سماع المقطوعة إلا عندما عرفت عملياً كيف يمكن لدموع المرء أن تجعله غير قادر على رؤية الكلمات المكتوبة أمام ناظريه. فكانت قراءتي لقلم خوسيه مياس واستماعي لموسيقى إليني التي لاتنتهي هي حالة من النادر أن تحدث للمرء كل يوم. خاصة إن كنت قد انغمست في هذه الحالة وأنت ترى خيوط الشفق قد ملأت السماء، وكأن الشمس تبكي معك من أثر مياس فيها، وكأنها قد امتلأت هي الأخرى بموسيقى إليني!

الأحد، 13 أبريل 2014

من أجل أبجد



أكتب هذا المقال وتملؤني الحماسة لهذا المشروع. موقع أبجد، الحاصل على جائزة محمد بن راشد لأفضل مشروع ناشئ على مستوى الوطن العربي عام 2013.

أكتب وأنا راغب في أن يكون لأبجد دورا أساسيا في التنمية الثقافية وتحفيز الوعي بين شرائح مستخدمي الإنترنت في البلاد العربية. أكتب كي لا يظل أبجد مجرد مشروع ناشئ.

أكتب ويملؤني الأمل في أن يكون لما أكتبه دورا ولو بسيطا في أن يتحرك أبجد للأمام ويترك موقعه الدافئ المريح كمشروع ناشئ ناجح حاصل على جائزة وبه عدد ليس بقليل من المستخدمين. أكتب لكم أنتم، يا من تقودون هذا المشروع، ولكم الحق في أن تضربوا بكلامي عرض الحائط أو تلقوا به في الهواء كذرات غبار لا قيمة لها، أو من الممكن أن تحاولوا التفكير فيه بموضوعية بعيدا عن الزهو بعدد المشتركين أو الفخر بالحصول على جائزة لمشروع ناشئ.

في العام الماضي كنت قد حضرت ورشة عمل في القاهرة تحت رعاية USAID عن موضوع يخص المشاريع الناشئة بشكل كبير للغاية وتحت عنوان Business Model Development . تحدث المحاضر (وكان أمريكيا ساهم في تأسيس عدد كبير من المشاريع الناشئة في Silicon Valley) عن الكثير من النقاط التي من الواجب على كل من ييدأ مشروع ناشئ فهمها ومعرفتها. ومن ضمن ما تحدث عنه هو إحصائية كان قد قامت بها مؤسسة مسئولة عن تمويل المشاريع الناشئة. وتتحدث الإحصائية عن أن  قرابة ال 88% من المشاريع الناشئة على مستوى العالم تتوقف بعد عام أو اثنين من إنطلاقها. ومن الأسباب الرئيسية المذكورة لتفسير ارتفاع هذه النسبة من الفشل في استمرارية المشاريع الناشئة والتي كانت مفاجأة كبيرة، هي التوقف عن الاستمرارية في تطوير المشروع الناشئ (Enhancement) بمجرد الوصول لحالة من الإستقرار في تشغيل المشروع سواء كان موقع أو تطبيق على الهواتف. وتبدو هذه الإحصائية بها الكثير من المنطق. ففي وسعنا أن نرى التحديثات المستمرة التي تقوم بها فرق التطوير لأكبر مواقع التواصل الإجتماعي على الرغم من رضا المستخدمين عن أشكال المواقع التي ألفوها وإنزعاجهم مع كل تغيير جديد. ولكن هذا الإنزعاج يتحول مع الوقت وفي فترة قصيرة إلى رضا عن التحديث الجديد ومن الممكن إعتبار هذا نجاح لمواقع التواصل الإجتماعي في فهم وتطبيق  UX/UI and Usability Principles.

وسأنتقل هنا للحديث بشكل خاص عن أبجد. وسيكون كلامي بصفتي مهندس للبرمجيات ومستخدم للموقع ولي تجربة أيضا مع إدارة المشاريع الناشئة وتحديد المهام ومتابعة تنفيذها بالإضافة لتحديد السياسات العامة والاستراتيجيات المستقبلية كإستهداف شرائح معينة من المستخدمين أو إدخال تطبيقات مأخوذة عن أوراق بحثية لفريق المشروع في علوم الحاسب  لكي يمكننا الوصول لبعض الحلول المبتكرة التي لا توفرها البرمجيات المتاحة.

أول ما يبعث في داخلي الرغبة في حتمية تحرك أبجد للأمام هو صفة “ناشئ” التي فاز بها المشروع بجائزة. نحن نحتاج لأن يتحرك المشروع من موقعه كمشروع ناشئ إلى موقع أكبر وأفضل. وهذا يحتاج في رأيي إعادة التفكير في السياسات العامة واستراتيجية المشروع كليا. يحتاج فريق العمل الجلوس من جديد في جلسات عصف ذهني عاصفة فعليا. ومراجعة الأهداف التي وضعوها في بداية إنشائهم لأبجد ويتسائلوا عما يجب أن يضاف أو يخرج من حساباتهم كخطوط عامة للأهداف الرئيسية وكيفية تنفيذ هذه الاهداف لكي يصبح أبجد مشروع ناجح (وليس مشروع ناشئ ناجح) وهذه هي الخطوة التي ستكون قادرة على جعله بعد ذلك شركة ناجحة.

وقد أعلن مؤسسي الموقع في فيديو قصير لهم عن رغبتهم بأن يقوم أبجد بدور المجتمع المفتوح للقراء والكُتاب ودور النشر على مستوى الوطن العربي وأنا متحمس لرغبتهم هذه بكل تأكيد. ولكن أليس من حق المستخدم الجديد أن يعرف أكثر عن الموقع ورسالته وما يتعلق بهذا كله من تفاصيل والتي دائما ما تكون موجودة في صفحة غالبا ما تسمى about us. بحثت كثيرا في الموقع عندما بدأت إستخدامي له لكي أعرف أكثر عن هذا المشروع فلم أجد أي صفحة عليه تجعلني أتعرف على أي معلومات عنه.
هناك أيضا بعض الأشياء التي لم أفهمها والتي من الممكن أن تبدو في ظاهرها مجرد تفاصيل بسيطة ولكن حتى أدق التفاصيل تحتاج للكثير من الجهد لتغطيتها. وسأكتب ما لاحظت في الموقع قدر ما أمكنني من إختصار عسى أن تكون هذه الملاحظات ذا نفع لهم.

- عدم إمكانية أن تكتب مقال سوى عن طريق إرساله لبريد الموقع وإن وافقوا عليه ينشر وإن لم يوافقوا بالطبع لن ينشر. ولا أستطيع صراحة أن أتفهم أي سبب لهذه الطريقة الأبوية في التعامل مع مستخدمي الموقع. فمن يريد أن يكتب شئ سئ لن ينتظر أن يكتبه في مقال لأن هناك مساحات أخرى على الموقع تسمح له بأن يكتب ما يشاء كالتعليق على الكتب أو الإقتباسات أو الأبجديات (على فرض أن المستخدم أراد الإساءة). التناقض الرئيسي هو أنني وجدت الموقع ينشر مقال عن رفضه الرقابة على الكتب وها هم ينفذون الرقابة على مجرد مقالات!

- لاحظت أيضا إهتمام بعض أفراد فريق الموقع بأن يعلقوا على بعض الأبجديات بتوجيه المستخدمين إلى إمكانية أن يضيفوا ما يكتبوه لصفحات الإقتباسات إن كان يخص كاتب بعينه أو إذا كانت الأبجدية تحمل رابط مقال خارجي فينصحوه بأن ينقل المقال كاملا في الأبجدية ويذيله بالرابط الخارجي، وقد حدث هذا معي شخصيا. وأريد أن أقول لإدارة الموقع أن هذا ليس دورهم ولا حتى دور المسئول عن الإعلام الإجتماعي.دوركم ليس توجيه المستخدمين. هذا خطأ في سياسة إدارة الموقع ومزعج للمستخدم. إن كنت قد صممت الموقع بشكل بسيط وواضح فلن تحتاج إلى أن تتدخل في طريقة استخدام القراء لموقعك وتوجهيهم.

- نقطة أخرى سيئة للغاية وهي إجبار المستخدم على أن يتابع قائمة الإقتراحات الظاهرة كي يظهر له قائمة أخرى وعدم وجود إمكانية تخطي إقتراح والحصول على إقتراح بمتابعة شخص آخر. وإن كانت هذه النقطة عائدة لمشكلة تقنية فمن السهل تداركها وإن كانت مقصودة كجزء من سياسة الموقع فستكون المشكلة أكبر من ذلك بكثير. وسوف تندرج تحت بند سياسة الإجبار كما فعلوا في الطريقة التي اختاروها لينشر المستخدمين المقالات على الموقع.

- في صفحة كتاب ما لن تستطيع رؤية من قيّم الكتاب إلا إن قيمه وكتب تعليق عليه (كتاب خرافة التقدم والتخلف كمثال).

- عدم القدرة على معرفة من وافق على شئ أكتبه في الأبجديات إلا عن طريق الإشعارات الفردية. فليس في إمكاني أن أذهب للأبجدية وأضغط على أي شئ لكي أتمكن من معرفة من وافق على أبجديتي.

- إن كنت تقرأ كتاب فلن تستطيع أن تكتب تعليق وأنت تحدد رقم الصفحة التي توقفت عنها أثناء عملية القراءة.

- عدم القدرة على رؤية تفاعلات الأصدقاء مع بعضهم البعض. فقط تستطيع أن ترى أبجدياتهم أو رأيهم في الكتب أو الإقتباسات. أما إن عاد أحدهم لأبجدية سابقة وكتب تعليق عليها فلن يظهر على (Timeline)  ما يشير لهذا التفاعل الجديد.

- إن كنت تشاهد قائمة المتابعين لك أو قائمة الأشخاص الذين تتابعهم فلن تتمكن من فتح حساباتهم الشخصية إلا بالضغط على كلمة (عرض الملف الشخصي) ولا أعلم حقيقة ما فائدة هذه الجملة! ألا يكفي الضغط على إسم المستخدم لأصل لحسابه الشخصي!

- كيف يمكن البحث عن الأصدقاء على الموقع ؟

- عدم القدرة على الحصول على أبجدية ما برابط خاص بها.

هناك بالتأكيد بعض الملاحظات الأخرى ولكنها أقل أهمية في رأيي مما ذكرت. ولهذا فضلت أن أركز فقط على ما أرى أنه ضروري وسيعطي الكثير من الحيوية للموقع إن تم البدأ في عملية التطوير والتحسين اليوم قبل غد.

أكررها من جديد أبجد يحمل الكثير من الأمل. ولكنني لن أكتب مديحا. لأنني أظن أنهم قد  أُشبِعوا به. سأكتب ما يراه ضميري وعقلي قد يجعلهم قادرين على أن يكونوا أكثر من مجرد موقع ناشئ.

السبت، 12 أبريل 2014

مشكلة الأفكار ومسؤولية المثقف



إن القضية الإجتماعية في عالمنا العربي والإسلامي تكاد تكون واحدة. فبين حنين إلى الماضي بما يشمله من آراء وأفكار فقهية إجتماعية من جهة، وبين الإنجراف لتيار الأفكار الغربية بكل ما فيها أحيانا من تناقضات فكرية من جهة أخرى. فلقد اعتدنا  على الأخذ من مجتمعاتهم دون التفكير بعمق أو حتى محاولة تنقيح أفكارهم التي هي جزء أساسي من موروثهم الثقافي والذي يختلف عن موروثنا. لم ندرك حقيقة أنه من المهم أن نتعلم منهم ما يرفع من شأننا دون التشبث بقشور حضارتهم والتي غالبا ما تُحدِث تشوهات في نظرتنا لموروثنا الثقافي. ومن هذه النقطة تحديدا انطلق الكثير من المفكرين العرب والمسلمين يكتبون الدراسات والأبحاث والأطروحات التي يجدونها قد تصلح لأن تكون تحليلا لمشكلة الأفكار في مجتمعاتنا ومن ثم يمكننا السعي في إيجاد الحلول المناسبة.

 ومن وسط كل تلك الكتب والدراسات يلفت انتباهي كتابان أعتقد أنهما على درجة من الأهمية ليست بقليلة وهما:

مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي لـ المفكر الجزائري مالك بن نبي

مسؤولية المثقف لـ عالم الإجتماع الإيراني علي شريعتي


يتناول مالك بن نبي في كتابه قليل الحجم كثيف الأطروحات ما حدث للأفكار الموجودة في العالم الإسلامي وما لاحظه من إنحدار الضمير الجمعي للمجتمعات الإسلامية وما أدى إليه ذلك من تدهور للقيم والأخلاق و ظهور شقاق بين المظاهر الدينية والعبادات من جهة وبين الأفكار والمبادئ التي يدعو إليها الدين كالعدل والحرية وطلب العلم والوقوف في وجه الظالم بالإضافة إلى حسن المعاملات الإجتماعية عن طريق الصدق والإخلاص وإتقان العمل من جهة أخرى. يلفت انتباهنا إلى أن بذرة الشقاق هذه قد ظهرت لأول مرة عندما قال عقيل أخو علي بن أبي طالب: إن صلاتي وراء علي أقوم، وطعامي عند معاوية أدسم. فتحول الأمر هنا من الإلتفاف والتمركز حول أفكار ترتقي بنا، إلى التمركز حول أشخاص يشبعون حاجاتنا المادية كمعاوية مثلا.


وبنقلة سريعة إلى العصر الذي نعيش فيه، يجعلنا مالك بن نبي نرى أن هذا النموذج موجود حتى الآن في الدولة الإسلامية على هيئة القائد والزعيم الملهم. ولأن هذا النموذج ما لبث أن أثبت فشله في مختلف دول العالم الثالث وليس فقط دول العالم الإسلامي، نجد الناس بدلاً من أن تنتفض مستيقظة من غفلتها مراجعة ذاتها لتعود مرة أخرى للتمركز حول الأفكار والمبادئ، تراهم ينحدرون أكثر ليصلوا لمرحلة ما بعد الحضارة والتي تتحول فيها المجتمعات من مجتمعات منتجة فكريا إلى مجتمعات إستهلاكية يعيش فيها الناس مع بعضهم البعض على أرض واحدة دون أن يربط بينهم أي رابط فكري أو إجتماعي، نجدهم يتمركزون فقط حول احتياجاتهم للأشياء. فكل ما يهم المجتمع في هذه المرحلة “ما بعد الحضارة” أن يجد حاجاته الأساسية “الأشياء” دون النظر إلى مصدر تلك الأشياء أو دون النظر إلى الطريقة التي يحصل بها عليها أو حتى دون النظر لأهمية هذه المنتجات الإستهلاكية وهل هو يحتاج إليها حقا أم لا. وهذه هي النتيجة الطبيعية لإختفاء الروابط الفكرية بين ابناءالمجتمع الواحد.


ولضعف التعليم وانحدار الوعي العام وتدهور الحركة الثقافية في المجتمعات العربية والإسلامية بالإضافة إلى الاستبداد السياسي والفساد الحكومي وما يترتب على كل ذلك من تبعية اقتصادية وسياسية لأنظمة غربية مختلفة، نجد رؤساء البلاد والحكومات العربية والإسلامية يتشبثون بالنماذج الإقتصادية الغربية. نجدهم حائرين بين كارل ماركس من جهة وآدم سميث من جهة أخرى، يميلون للإشتراكية تارة ويركنون للرأسمالية تارة أخرى، وياليتهم يستطيعون تطبيق تلك النماذج بشكل فعال، ففي كل مرة يأخذون من الفلسفات الإقتصادية شعاراتها دون مضمون حقيقي. وعند التطبيق الفعلي لا يحاولون حتى ملائمة تلك النماذج الإقتصادية لطبيعة مجتمعاتهم ودون دراسة حقيقية لجدوى تطبيق فكر ما.


وينتهي مالك بن نبي في كتابه الواجب قراءته بحتمية البحث عن نموذج إقتصادي إجتماعي ليس بالضرورة أن يكون منتميا لأي من مدرستي كارل ماركس أو آدم سميث.

 ومن نقطة تقترب كثيرا من هذه الفكرة ينطلق علي شريعتي في كتابه “مسئولية المثقف” فيوضح كيف يمكن لنموذج إجتماعي أن يكون صحيحا في ظروف زمانية ومكانية وثقافية معينة ولا يصلح هذا النموذج في ظروف مختلفة عن تلك الظروف التي نشأ فيها ويُبرِز حركة الإستنارة في أوروبا كمثال على ذلك. فنعود معه لمناقشة القضية الإجتماعية وتطورها، فيحثنا هو أيضا على السعي لإيجاد النموذج الإقتصادي/الإجتماعي الخاص بنا، وأن ندرك في سعينا هذا أن دراسة المجتمعات الإنسانية تختلف عن دراسة علوم الطبيعة والرياضيات، وأن محاولتنا لفهم طبيعة البشر تختلف عن محاولة فهمنا لطبيعة الأرقام والمعادلات الرياضية الجامدة. ثم يذهب في توضيح مسئولية المثقف اتجاه مجتمعه بشئ من التفصيل، بعد تعريفه في بداية الكتاب بالمقصود من مصطلح المثقف وكيف تطور مع بداية حركة الإستنارة في أوروبا حتى وصوله إلينا، فيضع على المثقفين جزءاً كبيراً من مسئولية تدهور وعي عامة الناس. يحثهم على محاولة تحفيز الوعي الجمعي لكي تنمو الحركة الثقافية والإجتماعية داخل بيئتهم، ليتراكم الفهم وتظهر قدرة العامة على التعبير عن عدم الرضا من الأوضاع التي يعيشونها، فيحدث التدافع المنشود والذي ينتشل المجتمع من الركود والبلادة ويجعله يبحث عن غد أفضل.


فمتى يا ترى سنبدأ في محاولة فهم مجتمعاتنا ومشاكلنا بشكل حقيقي ومن بعدها يمكننا البدأ في البحث عن النموذج الإقتصادي/الإجتماعي الذي يرتقي بنا لمستوى الرفاهية وفي الوقت نفسه يلائم ويحترم موروثنا الثقافي والفكري

الأحد، 6 أبريل 2014

هل قرأت رواية مرتين



أظن أن غالبية من يحب القراءة قد دفعه القدر إلى قراءة رواية ما مرتين على فترتين متباعدتين. فقراءة عمل مرتين تفصل بينهما فترة زمنية طويلة نسبياً تختلف عن قراءة نفس العمل مرتين متتاليتين مثلما فعلت مع باب الخروج و 1984 كما ذكرت في مقال الأسبوع الماضي.


إن الأثر الذي يتركه فينا عمل ما عند قراءته للمرة ثانية بعد فترة طويلة نسبياً لهو حقاً غريب ومثير للانتباه. فقد نجد أنفسنا أحيانا مندهشين من روعة هذا العمل وكيف لم نتذوقه ولم نحبه في قراءتنا الأولى له، كيف لم نجده ذي قيمة وروعة أدبية في السابق. وقد نستطيع أن نتفهم هذا الشعور على أنه نتيجة للنضج الفكري أو اتساع الأفق والقدرة على استيعاب مضامين لم يتسع عقلنا لها في مرحلة عمرية معينة، عندما كنا لا نمتلك الكثير من القدرة على التأمل والتفكير فيما نقرأ بشئ من العمق.


وقد ينتابنا شعور مضاد تماما لما تحدثت عنه منذ قليل. فنشعر بشئ من خيبة الأمل والفتور، ونتساءل كيف كنّا نجد تلك الروايات هي أعظم ما قرأنا، كيف كنا ننزعج بشدة إن وجدنا من أصدقائنا أو ممن حولنا من ليس متحمسا لها بقدر حماستنا، وكيف لم يشعروا بها كما شعرنا !. نتذكر كيف كنا نقف عند تلك الفقرة ونتنهد من فرط الألم، نشعر بضيق من فرط الحزن أو تملأنا رغبة حقيقية في الخروج وتأمل الكون عند قراءة جملة تمتلئ بالحكمة على لسان أحد شخصيات الرواية.عندما نتذكر كل هذا ونجد أن كل تلك المشاعر القوية قد تلاشت نسبياً، نجد حماسنا اتجاه هذه الروايات قد قلّ وتعلُقنا بها قد خفت. نتعجب ونتسائل في حيرة، لما يا ترى هذا التغير الذي حدث لنا؟ والسؤال يبدو للوهلة الأولى به شئ من الغموض، ولكنني سأحاول أن أطرح ما فكرت فيه هنا لأترك لكم في النهاية الحق في إضافة آرائكم لما سأقوله أو الإعتراض على ما توصلت إليه.


ففي ظني، إن ما نشعر به من خيبة أمل أو فتور في المرة الثانية لقراءة رواية، ما هو إلا تجلي من تجليات طبيعتنا الانسانية. إن الشخص عندما يتعلم جدول الضرب والقسمة مثلاً، يملئه الحماس والشعور بالفخر. وينتقل من مرحلة دراسية إلى أخرى وما إن يصل لمرحلة متقدمة في دراسة الرياضيات حتى نجده يسخر من كونه كان فيما مضى يشعر بكل هذا الفخر لتعلمه جدول الضرب والقسمة. إنها طبيعتنا الإنسانية المبنية على الفضول ومحاولة الكشف عن كل ما هو مجهول والتقليل من قيمة كل ما نملكه بين أيدينا فعلياً. وستظل هذه الطبيعة جزءا من تكويننا ما دمنا بشراً.


ولنتخيل أن عقل الإنسان كبيت كبير للغاية. بيت به عدد لا نهائي من المصابيح يساوي عدد الكتب التي أنتجتها الإنسانية جمعاء في كل المجالات. وكلما قرأ المرء كتابا أحدث في عقله ما تُحدِثه إضاءة مصباح في بيت معتم. فعندما نقرأ رواية ما في بداية ممارستنا للقراءة نجدها تفعل فينا كما يفعل المصباح الذي يضيئ بيتا غارقا في العتمة. فإن تألق المصباح بالضياء – وإن كان ضئيلا- في بيت معتم يعدو حدثاً ليس هيناً لصاحب البيت. فمن بعد العتمة ها هو الضوء ينبعث من أحد أركان البيت.


ويمر الوقت و ما يزال المرء حريصا على القراءة، دؤوبا على المطالعة، يسعى لإنارة عقله، يريد أن يعرف تفاصيل ما يدور حوله، يمضي قدما في محاولة إكتشاف ذاته. حتى يصل إلى لحظة يشعر فيها أنه يريد شيئاً من الراحة الذهنية، لحظة يقرر فيها أن يتأمل الكتب التي قرأها، يتذكر المصابيح التي أضاءت بيته المعتم وكيف كان حاله قبلها، كيف كان حاله لحظة قراءة أول كتاب، فيبتسم ساخرا من شدة انفعاله حينها مقارنة بمئات الكتب التي تضئ عقله الآن. وعندما يقرأ عملا كان قد قرأه في بدايات ممارسته للقراءة يجد نفسه كمن يحاول أن يستبين ضوء مصباح وسط مئات المصابيح المضيئة! فيتملكه شعور بضآلة اللبنة التي قد وضعها في بداية طريقه، وهو لا يدرك كم كان لتلك اللبنة من أثر الآن في كونه يمتلئ بالفهم والضياء، كيف كان لتلك اللبنة من قدرة على إضاءة نفسه المعتمة، كيف كانت قادرة على مساعدته في تلمس الطريق حتى أصبح ما هو ما عليه الآن.


فلنقيّد غرورنا، ولنتذكر ضآلتنا، ولنعلم أننا قد نُفني حياتنا ولا تزال أقدامنا على بداية طريق المعرفة.

عن باب الخروج و1984


كنت قد بدأت قراءة باب الخروج في عربة مترو الأنفاق، وكان قد تبقى على نزولي فقط محطتان ولكنني ما إن بدأت فيها حتى وجدت نفسي قد وصلت إلى آخر محطة في خط المترو. لم أشعر بالوقت حقاَ، وبعد أن أنهيتها شرعت في قراءتها مرة أخرى. فوجدت نفسي أرى كل شئ يحدث فيها وكأنه يحدث من حولي حسيّاَ. وبعد سنة تقريباَ من قراءتها بدأت في قراءة 1984 ووجدت نفسي أفعل معها كما فعلت مع باب الخروج، فما إن انتهيت منها حتى بدأت في قراءتها من جديد، فهاتان الروايتان من النوع الذي يُقال عنه "إنها رواية تُقرأ ثم تُقرأ من جديد" ولاشك في أن الاستثنائية هي الصفة الأبرز في كلتا الروايتين. وتستطيع أن تتلمس هذه الصفة فيهما بسهولة من وسط كل مقروءاتك الأدبية. وقد يظن القارئ أن عدم وجود وحدة في الزمان أو المكان بين أحداث الروايتين، وأن البعد الزمني بين وقتيّ إصدار العملين –طُبعِت 1984 لأول مرة عام 1949 وطُبعِت باب الخروج لأول مرة عام 2012- وبالتالي اختلاف الظروف الحياتية التي مر بها كل من الأديبين، بالإضافة إلى ذلك كله اختلاف جنسيتيّهما من الممكن أن ينفى وجود شئ من التواصل الفكري بين العملين.

إلا أن القارئ لكلتا الروايتين سرعان ما سيجد بداخله ما يُحدِثه عن وجود روح هائمة مشتركة بين العملين. روح أطلقها جورج أورويل بإصدار روايته الفريدة (1984) منذ أكثر من خمس وستين عاما. روح ظلت حائرة في دروب عالم الأدب الذي يتسع باتساع الكون. تريد أن تستقر في قالب جديد لا يطمِس أصالتها وينقشها بروح شابة معاصرة بعدما أحدثت ما أحدثته من ضجة وتسببت فيما تسببت فيه من جدل وثورة في الكتابة الأدبية عن السياسة. فجاء عزالدين شكري فشير بروايته باب الخروج لينحت لتلك الروح هذا القالب الذي طالما هامت بحثا عنه. وأكثر ما يلفت النظر في شخصية عزالدين شكري فشير الدبلوماسي وأستاذ العلوم السياسية الذي يرفض كل تلك الألقاب مهيبة الوقع ويُفضِل أن كان لابد له من لقب أن يكون "الروائي"، أنه مقتنع تماما بأن العلوم السياسية والدبلوماسية هي الخلفية المعرفية والعملية التي استخدمها واستغلّها خيال الروائي بداخله كي يحيك كتابات أدبية ذات طابع سياسي فريد في الأدب العربي المعاصر.

فاستطاع عزالدين شكري فشير في عمله باب الخروج أن يحتفظ بأصالة الفكرة السياسية التي أطلقها جورج أورويل في 1984 في قالب روائي راقي وأضاف إلى ذلك الكثير من التجديد والمعاصرة والمعالجة الأدبية القيّمة مستغلا لغته السهلة وهدوء روحه الذي سرعان ما يصلك من كلماته عميقة المدلول. فكانت باب الخروج بخيال كاتبها الخصب وفي هيئتها الأدبية الأنيقة ومعالجتها السياسية المنضبطة لآلام وطنه هي أقرب إلى أحدى المنحوتات الشامخة متقنة الصنع التي صممها نحات يمتلك أدواته بثقة وقد استلهم هذا النحات روح عمل من كلاسيكيات فن النحت وأعاد لتلك الروح رونقها وبهائها بشكل يتناسب مع الوقت المعاصر بكل ما طرأ عليه من اختلافات حياتية وذوقية.

وعندما اتأمل سريعا قراءتي لـ 1984 تستوقفني جملتين مدهشتين ومثيرتين للانتباه جاءتا على لسان ونستون بطل الرواية، الأولى : إن كان ثمة أمل فهو في عامة الناس. والثانية : لن يثوروا حتى يعوا ولن يعوا إلا بعد أن يثوروا. وعلى الرغم من نهاية الرواية بشكل يُبرِز بشدة مفهوم الواقعية التشاؤمية والتي وصل فيها ونستون إلى حالة حب حقيقي للأخ الكبير، إلا أن المفكر المتأمل في قرائته لهذا العمل يشعر طوال الأحداث أن الاستبداد والقهر والتعذيب مع كل ما ينتاب المرء من شعور بأن لانهاية لهم، إلا أنه لابد وأن يأتي وقت ويحدث الانفجار. وللغرابة فإن هذا الانفجار غالبا ما يحدث في الوقت الذي يتأكد فيه المستبد أن ما من شئ بمزحزحه عن سلطته أو حكمه.

وأما عن باب الخروج، وعلى الرغم من كل ما فيها من ألم وفزع في بعض الأحيان، تجد الأمل بين سطورها دقيقاَ يحتاج لقارئ متأمل كي يراه بوضوح. فترى عزالدين شكري فشير وقد أعلن عصريته وتجديده. فينتشلنا من حتمية الاستسلام التي وصل لها ونستون في 1984 ويضع الثورة من جديد في طورها الطبيعي من حركة التاريخ والشعوب. يأتي ليقول لنا في باب الخروج أن الأمل حقاَ في العامة، يسير بنا في طرقات خياله الذي دونه في روايته المدهشة ليجعلنا نرى كم هو غالي حقا ثمن التغيير والحرية الذي علينا أن ندفعه. يجلعنا نرى كيف يمكن بشكل عملي أن يكون الأمل حقا في العامة. وكيف يمكن لحلقة الثورة والوعي المنغلقة على ذاتها أن تنضج فعليا وأن عملية نضوجها هذه لابد أن تتمخض عن الكثير من الألم والمعاناة التي سوف يمر بها كل من فجر الثورة وحفز الوعي. ولكن هذا الألم هو السبيل الوحيد الذي سوف يصل بنا حتما إلى غد مختلف مهما تأخر ذلك الغد.

ويسير بنا عزالدين شكري فشير في مسارات أحداث روايته حتى نصل إلى الوقت الذي نرى فيه علي، الشخص الأكثر استسلاماَ طوال الأحداث، قادراَ على أن يقف أمام نفسه ويواجهها بجبنه وهروبه الذي اعتاده طوال الوقت. يرتضي أن يضع نفسه في موقف سوف يُتهم بسببه بالخيانة العظمى إن فشلت مساعيه. يجعلنا عزالدين شكري فشير نرى على لسان علي كيف يمكن للشعارات الوطنية التي يرفعها من هم في السلطة أن تكون مجرد غطاء للوصول للمصالح الشخصية. لماذا يفعل علي كل هذا ؟ لأنه رأى المتاجرة العلنية بالوطن والناس من أجل السلطة، رأى أهله وأصدقائه يتساقطون قتلى مع كل أزمة يمر بها الوطن بسبب أطماع السياسيين والعسكريين وتنافسهم الأحمق على السلطة. فيعلن ثورته على طبيعته ويجازف بنفسه وسمعته لأن حدسه قد هداه أن يفعل كل ما في وسعه كي يعطي الشباب الفرصة ليُكمِلوا ما بدأوه. وهذه هي المرة الأولى التي سوف نرى فيها علي يتبع حدسه.

إن الروح الاستثنائية في باب الخروج تبلغ أعلى تجلياتها في عدم تصريح عزالدين شكري فشير بالأمل أو البهجة كما أراد أن يُسميها. فلقد أراد منا أن ندخل بأنفسنا إلى ضمير علي ووجدانه ونتلمس حدسه بأرواحنا التي ظلت تتأرجح بين الشفقة على مصيره تارة وبين تشجيعه على المضي قدما في الدرب الذي اختاره تارة أخرى.

فهل نستطيع أن نقول بأن عزالدين شكري فشير في باب الخروج قد أوجد باباَ للخروج من أجل ما انتهى إليه جورج أورويل في 1984 !


العبودية الجديدة


قال العقاد في مطلع القرن الماضي: إن الوظيفة هي رق القرن العشرين. وأكاد أرى صحة هذه المقولة تزداد تأكيداً كل يوم. إن كل يوم يمر علينا ونحن نعمل في دائرة روتينية نتحول ببطء قاتل إلى آلات وليس أكثر من ذلك. يختفي الوعي من عقولنا تدريجيا، تتلاشى قدرتنا على الملاحظة، النقد، محاولة الفهم أوالرغبة في إلقاء الأسئلة التي دائما ما تبدأ بـ “لماذا” أي الأسئلة الغائية.

ولهذا يكون دائما من الشاق على الموظف الذي يقوم بعمل روتيني أن يداوم على القراءة بحق ولو كان يقرأ فلن تتعدى قراءاته الروايات الخفيفة والقصص البوليسية المثيرة.وعلى الرغم من أنه غالبا ما يمتلك وقت فراغ كبير أثناء عمله، نجده لا يحمل رغبة قوية في استغلال هذا الوقت ليقرأ ولو بضع صفحات من كتاب. ولأن القراءة الحقة تبعث على التفكير والتساؤل وخصوصا الكتب التي تُحيي الفكر ولا تجعل العقل يركن إلى الجمود. نجد في الوقت نفسه العمل الروتيني يبعث على الخمول والركود. ولا أظن أن للعقل البشري القدرة على التوفيق بين هذين الطابعين المتناقضين في آن واحد.

فالموظف الروتيني الذي يقرأ الكتب بشكل يومي سيصل إلى نقطة يجد نفسه عندها غير قادر على أن يتحمل ما يلاقيه من تناقض بين سمو الأفكار التي استلهمها من قراءاته من ناحية وبين ضحالة الواقع الذي يعيشه من ناحية أخرى. فينتهي به الأمر إما بترك القراءة كي لا يتحول واقعه إلى جحيم أكبر بإدراكه المتزايد كل يوم أنه كان يجب أن يحيا بشكل أفضل من ذلك وأن هناك من كان فساده سببا في أن يحيا هذه الحياة الرثة. وإما سوف ينقطع عن العمل أو يتقدم بإستقالته أو يسير في عمله وهو يحاول أن يطبق شيئا مما فهم أو عرف من تلك الكتب التي يقرؤها فينتهي به الأمر بأن يتسبب أحد رؤسائه في إقالته على أثر مناقشة حادة أو رفض لتنفيذ الأوامر الجامدة.

وقد قرأت قصة قصيرة منذ فترة قريبة بعنوان الأحرار للكاتب العبقري يوسف إدريس ضمن مجموعة قصصية تحت عنوان آخر الدنيا، وقد تكون هذه القصة خير مثال حول ما أريد أن أصل إليه. تحكي هذه القصة عن شاب كان يحب القراءة كثيرا وعندما تخرج من الجامعة إلتحق بوظيفة Typist في إحدى الشركات الكبيرة. وفي ليلة من الليالي وقد ذهب النوم من عينيه، بدأ يتسائل فجأة عن الفرق بينه وبينه الآلة التي يكتب عليها وألح عليه السؤال بشدة وحاول أن يتهرب منه فلم يستطع. فالآلة التي يعمل عليها تنفذ كل ضغطة منه على زر من أزرارها وهو أيضا ينفذ كل ما يقوله رؤسائه دون نقاش أو محاولة للفهم. وبعد أن أرقته تلك الفكرة طوال الليل، ذهب إلى العمل في الصباح وكان عليه أن يكتب خطابا وجد فيه خطأ لغويا فأصلحه، ولم يترتب على هذا التصحيح البسيط غير الاستدعاء من قبل مديره المباشر وتعنيفه بشدة. وقد أمره مديره أن يكتب ما يأتيه دون أن يبدي رأيه أو يصحح شئ حتى لو كان خطأ. فرفض الشاب هذا الأمر وكانت النتيجة النهائية فصله من عمله بعد الكثير من الأحداث المتسارعة والتي ستجد يوسف إدريس قد كتبها بشكل مذهل ليجعلها تمس وجدانك بقوة.

إن العمل الروتيني الباعث على الضجر والذي يتوقف فيه العقل عن الإنتاج بالإضافة لساعات العمل المتزايدة والتي تكاد تغطي اليوم كله وما يتعلق بكل هذا من ساعات مفقودة في ازدحام المرور والأخرى المفقودة في محاولات تجبير المشاكل الناتجة عن توافه الحياة، كل هذه الأشياء تعيق المرء عن محاولته لفهم الكثير مما يجب عليه فهمه وتأمله. إن معظمنا إن لم يكن كلنا للأسف يعيش بين أغشية مادية لزجة. فهناك من يتلذذ بوفرتها وهناك من يكافح لينال شيئا منها، وقليلون هم الذين يفكرون في كيف يمكنهم أن يعيشوا حياة متزنة بالتفكير في كل خطوة من خطوات حياتهم بشئ من التعقل. وهكذا يسير بنا المجتمع ممزقا بين هاتين الفئتين إلى غاية لا أحد فينا يعلمها.
إن الحياة التي نحياها بين أسر متصدعة لا يجمعها في غالب الوقت التفاهم أو المحبة الخالصة أو العلو فوق توافه المشاكل، أو بين أعمال تقتل أرواحنا، قد تدفعنا إلى الهروب لنهر القراءة، نهرب لكي نمد أيدينا ونروي ظمأنا ولو بشربة ماء من الفهم. ولكننا ما نكاد نشعر بوعينا يتفتح حتى نتوقف عن الاستمرار ونعود لاهثين لصحراء الحياة. تلك الصحراء الخاوية على عروشها هي السبب في خواء عقولنا وجمود قلوبنا. إن الروتين والعمل الذي لا يفرق بين الإنسان والآلة يطحن عظامنا كل يوم ويفتت ما بنا من قدرة على الفهم أو التأمل أو الفضول. إنه يقتلنا، يقتل الإنسان بداخلنا ويحولنا لمجرد كائنات لاهثة وراء المادة مهما اختلف شكلها.

أنا متفهم للغاية الحاجة الملحة لنا جميعا في تأمين مصدر دخل ثابت يحمينا ولو نسبيا من التقلبات الحادة للحياة خصوصا في هذه الأوقات الصعبة التي نمر بها. ولا أدعو أحد بكلامي هذا أن يتخلى عن عمله ولكنني أحث الجميع على أن يبحثوا بكل ما أوتوا من قوة عن الموقع الذي يمكنهم فيه إستغلال طاقتهم بشكل أكثر إبتكارية وأكثر إعمالا للعقل حتى لا نظل قابعين بين أغشية المادة مسحورين بما تحمله من وهم السعادة أو ساخطين لعدم شعورنا بالكفاية منها. وفي الوقت الذي سيجد كل امرئ فينا القالب الذي يكون فيه أكثر إبتكارية وأكثر إنتاجا وتأثيرا في هذه الحياة، سأشعر حينها أننا لم نعد مقيدين بتلابيب هذا الوهم، وهم السعادة المرتبطة بالمادة دون غيرها.