الأحد، 14 سبتمبر 2014

الفيلسوف والأرستقراطية يعثران على وتر مفقود من عازف الكمان

كما قلنا في المقال السابق، كان أينشتاين يحاول تأمل تساؤلاته حول طبيعة الضوء من جديد، حيث السؤال الأكثر إلحاحاً على ذهنه: ماذا لو كنت أنتقل بمحاذاة موجة ضوئية؟ فهل من المتوقع أن تظهر موجة الضوء ساكنة وليست متحركة. بنفس الكيفية التي ترى بها الموجة عند النظر إلى الماء وأنت تستقل مركبة شراعية مثلاً. أو عندما تستقل مصعداً وتشعر أثناء حركته بأنه متوقف. ولكن ماكسويل حمِل في معادلاته الرياضية ما يقول بأن الضوء ليس ساكناً. وحتى لو سِرت بسرعة 670 مليون ميل في الساعة -سرعة الضوء- فإن آشعة الضوء ستفلت منك بنفس سرعتها أي بسرعة 670 مليون ميل في الساعة أيضاً.

فلو كنت انظر إلى مرآة وأرى وجهي، حيث الضوء الساقط على وجهي ينتقل إلى المرآة ومن ثم ينتقل إلىّ مرة أخرى. فماذا سيحدث لو تحركت بسرعة الضوء وفي يدي المرآة، هذا يعني أن الضوء المنتقل من وجهي إلى المرآة سيتحرك بنفس السرعة التي أتحرك بها وبالتالي فهو لن يصل أبداً إلى المرآة. أي أنني لن أرى وجهي في المرآة مادمت أتحرك بسرعة الضوء!

كانت كل هذه المحاولات التأملية من أينشتاين تزيده قناعة بأن الضوء لا يشبه أي نوع من أنواع الموجات. في هذه اللحظة، كان أينشتاين على وشك دخول عالم تتداخل فيه الطاقة والكتلة وسرعة الضوء بطريقة لم تخطر في بال أحد من قبل. لكن أينشتاين كان ينقصه جانب رياضي يعينه على دخول هذا العالم، ويكمن هذا الدعم الرياضي في عملية التربيع التي نقوم بها بشكل يومي للقيم الرياضية. وهو ما سنتعرف على جذوره اليوم.

قبل الثورة الفرنسية بزمن طويل، لم يكن العلماء يعرفون كيف يقيسون الحركة. كانت المعادلات التي تشرح حركة الأشياء واصطدامها بدائية. حتى جائت مساهمة هامة في هذه الإشكالية العلمية عن طريق الأرستقراطية الفرنسية إيميلي دو شاتليه، والتي كان لها تأثير كبير في الفيزياء خلال حياتها القصيرة (43 عاما). لم يسمع بإيملي من أهل زمانها الكثير، على الرغم من نشرها عدداً من البحوث العلمية والتي كان من بينها ترجمة لكتاب إسحاق نيوتن “المبادئ”، وهو أعظم بحث حول الحركة كُتِب يوما. ولا تزال ترجمتها نصاً نموذجياً في فرنسا إلى يومنا هذا.

كانت إيميلي امرأة سابقة لزمانها ومكانها، كانت فيلسوفة وعالمة ورياضية وباحثة لغوية. كانت تحتاج إلى حرية لم تحظ بها المرأة إلا بعد زمنها بأكثر من مائة وخمسين عاماً، وهي حرية دراسة العلوم والكتابة عنها ونشرها. كانت إيميلي في الثالثة والعشرين عندما تعرفت على الرياضيات المتقدمة. وكانت تحضر دروسا عند أعظم علماء الرياضيات في ذلك الوقت. حيث كانوا هم خبراء في قوانين نيوتن، وهي التلميذة الصغيرة الشغوفة بالعلم. وبعد زواجها بفترة أنشأت في بيتها الريفي معهد لمنافسة المعهد الفرنسي الأكاديمي للعلوم. وكان يتردد عليه كبار لفلاسفة والشعراء وعلماء ذلك العصر.
 
تعلمت إيميلي من الرجال النوابغ حولها. ولكنها لم تلبث إلا أن أبدعت أفكارها الخاصة بها. حيث أثارت ذعر معلميها عندما تجرأت على الإشارة لوجود عيب في تفكير السير إسحاق نيوتن. حيث أكد نيوتن أن طاقة الأشياء أو القوة التي تجعلها تتصادم يمكن حسابها ببساطة من خلال ضرب كتلتها في تسارعها.
 
ومن خلال المراسلة مع علماء ألمان، تعرفت إيملي على آراء أخرى أهمها رأي عالم الرياضيات والطبيعة الفيلسوف “لايبينتز” والذي كان مقتنعا بأن طاقة الجسم مكونة من كتلته ضرب مربع سرعته. وعلى الرغم من التأييد الواسع لنيوتن، فإن قناعة إيميلي دو شاتليه بآراء لاينبيتز لم تتزعزع.
 
رأت إيميلي وقتها تخصيص فصل في كتابها من أجل عرض آراء لايبينتز. وعلى الرغم من تحذير فولتير لها بأن الأكاديمية الفرنسية الرسمية ليست مستعدة لقبول رأي كهذا في الوقت الحالي، إلا أنها رأت بعزمها أنه ليس هناك وقت محدد لتبني الحقيقة. وبعدها نشرت إيميلي كتابها بعنوان “قوانين الفيزياء” عام 1740 وأثار جدلاً واسعاً بسبب آرائها. حيث كانت إيميلي طوال حياتها تحاول تجاوز الحدود المفروضة على بنات جنسها.
 
إن نظرية إيميلي ولاينبيتز التي تتحدث عن أن طاقة الجسم معادلة لمربع سرعته أثارت جدلاً حاداً. ولم يتم قبول فكرتها إلا بعد مائة عام من وفاتها، وذلك عندما جاء الشاب ألبرت أينشتاين -عازف الكمان- واستخدم هذه الفكرة الملهمة التي مكنته من تشكيل رؤية عامة لمعادلة تجمع الطاقة والمادة وسرعة الضوء.
 
كان أينشتاين يحتاج إلى فكرة تربيع الرموز الرياضية كي يكمل بهذا الوتر الناقص كل ما احتاجه الكمان الخاص به. ومن بعدها، انطلق عازف الكمان يعزف سيمفونيات تعد الأعظم في تاريخ العلم. وهذا ما سنتعرف عليه في المقال القادم.

http://www.ibda3world.com/emilie-leibniz-light-missing-string/
 

الاثنين، 8 سبتمبر 2014

سيكولوجيا المجتمع .. بين "اثبت مكانك" و "مايستهلوشي"


ليس من السهل على أي مجتمع ألا يعبر عما يشغل عقله وضميره الجمعي، ولهذا ابتكر الإنسان الكثير من أشكال وصور مختلفة لهذا التعبير، وهذه الصور هي ما يمكن أن نسميه مجازا "الثقافة". فكان الفن بكونه جزءً من ثقافة المجتمع هو أحد أهم أشكال التعبير عنه وأفضل ما يمكن أن يعكس ما يشغل الوعي الجمعي. ومنذ نشأة مجتمعنا على ضفاف النيل منذ خمسة آلاف سنة تقريبا وإلى يومنا هذا، كان للفن أثرا ليس بقليل في تشكيل فهمنا للحياة وتقألمنا معها فضلا عن تعبيرنا عنها وعن ذاتنا.

وعندما خرج المصريون من كل شرائح المجتمع في يناير 2011 ليرفضوا الظلم والفساد، ويلعنوا مثبطي الأحلام وقاتلي المواهب، وجدنا الطاقات الفنية المختلفة والفريدة تلهب حماس الجماهير وخاصة الشباب وتلهم الكثير من المفكرين والأدباء.

فكانت أغنية مثل "اثبت مكانك" لفريق كايروكي تعبر بشكل فريد عن ذروة المشاركة الوجدانية بين أفراد المجتمع. حيث كان الألم النفسي ينتاب كل من خاض غمار الثورة بعد أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء، ودخل الكثير من الالتباس على عقول الناس.

فبدأت الأغنية بمقطع يزيل كل هذا الارتباك والتردد حيث قالت "اثبت مكانك .. هنا عنوانك .. دا الخوف بيخاف منك .. وضميرك عمره ما خانك". وكأنها تقول لنا إن ثبوتنا على طريق الثورة هو الحق وسط كل هذا الباطل، كما أن توزيع لحنها على هيئة دقات طبول النفير الذي يحفز كل من يتقاعس وتدفعه ليكون وسط كل من يدافع عن حقه في العيش الكريم جعل للأغنية روح قوية وآسرة لنفس كل من يستمع إليها.

وبعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف على بداية الثورة، مرورا بكل التقلبات التي أصابت بلادنا وكل ما ضُحيّ به من أجل الحرية والكرامة، حل الإنهاك وأصاب الإحباط واللامبالاة قطاع كبير من الشباب، الذين هم وقود البلد وطاقتها. فكان من الطبيعي أن تنال الأعمال الفنية نصيبها من هذه التقلبات لتتأثر جودة ما ينتج وأصبح التجديد والابتكار شئ نادرا ما نجده.

حتى أتت أغنية بعنوان مايستهلوشي، تظهر فيها شخصية أبلة فاهيتا والموزع الشاب حسن الشافعي، فشعر المرء بالارتواء بعد فترة من النضوب الفني. وأعادت هذه الأغنية الكثير من البهجة التي ظننا أننا فقدناها أو كدنا أن نفقدها.

ولكن كيف يمكن للفن أن يعين على البهجة ويبعثها من جديد من بين ثنايا مجتمع احتضنت بيئته الكثير من أشكال الكراهية والتشكك في الآخر. هنا نجد الفن متمثلا في الأغنية يتجاهل الواقع اليومي بشكل متعمد لأنه أصبح مصدر أساسي للاكتئاب، وفي الوقت نفسه ركز على تفاصيل الحياة الصغيرة ليبعث منها ما يعيننا على الابتسام ويدخل إلى نفوسنا شئ من البهجة التي تعيننا على الاستمرار العيش.

فبجانب اللحن الذي امتزجت فيه موسيقى "التكنو" بالناي والعود والشرقي، تجد الكلمات في إحدى المقاطع تقول "هلبس نضارتي.. والعب مزيكتي.. وهعيش بطريقتي.. ولو عكس الناس".

هنا يظهر الفن لينتشلنا من الإحباط الذي أصاب الوعي الجمعي، ويعيننا على الحياة بعدم الاكتراث لما يراه أو يريده الآخرين، والعيش بالطريقة التي تناسب خصوصية واختلاف أحدنا عن الآخر.

فالفن في "اثبت مكانك" و "مايستهلوشي" عكس الكثير مما يدور في في عقل المجتمع وكشف إحباطاته وآماله وتقلباتها على اختلافها، ولو اختلفت في كل مرة طريقة تعبيره عنها. فنعدما يكون هناك حالة يعيشها وجدان المجتمع، تجد الفن يعبر عنها بأقوى ما يكون. وعندما تتفتت مكوناته تجد الفن يبحث عن سبيل من أجل استمرار تدفق الحياة في ابناء المجتمع الواحد مهما كانت اختلافاتهم.

إننا نحتاج إلى الفن. نحتاجه في وقت الثورة، والاحباط، والحرب، والعمل. نحتاجه لأنه لا يوجد فنان متطرف، أو رسام إرهابي، أو موسيقي تكفيري. الفن يهذب أرواحانا ويعمق من إنسانيتنا ويساعدنا على فهم أنفسنا والآخرين حتى وإن لم نكن واعيين أو مدركين لحقيقة تأثيره المستمر في وجداننا.

طائرة: أو، كيف كان يتحدث إلى نفسه كما لو كان يلقي شعرا

 
 
 
 
 في تلك الظهيرة سألته: هل هي عادة قديمة أن تتحدث إلى نفسك بهذه الطريقة؟

بدا السؤال وكأنها قد قالته بمجرد أن جال بخاطرها. ولكنه كان يعرفها، ويعرف بوضوح أن الأمر لم يكن كذلك. فدائما ما تفكر فيما تقول لبرهة قبل أن تنطق به. تجمع الكلمات التي تفكر فيها، وكأنها تسحبها بلسانها إلى داخل فمها لتختزنها حتى يأتي الوقت المناسب لإطلاقها. حتى صوتها دائما ما يظهر فيه شئ من الحدة في مثل هذه الأوقات.

جلس كليهما قبالة بعضهما البعض إلى طاولة المطبخ، شعرا بشئ من البرد اللطيف في قدميهما العاريتين لكون أرضية المطبخ مغطاة بطبقة بلاستيكية تعمل على امتصاص الحرارة. كان هناك محطة قطار ركاب ليست ببعيدة عن المنزل ولكن قليلا ما تمر بها القطارات. غالب الوقت، يبدو الجوار هادئا بشكل غامض.
خلع جوربيه ووضعهما في جيب سرواله، وشمرت هي قميصها الباهت ذو المربعات حتى المرفقين، حيث الطقس في إبريل يميل إلى الدفء في فترة ما بعد الظهيرة. أمسكت بأناملها البيضاء النحيفة الملعقة وكوب القهوة الخاصة بها. ألفى نفسه محدقا في حركة يدها وأناملها، وشعر حينها أن عقله فارغا من أي شئ كسطح أملس.
أخذت تفكر إن كان سؤالها قد ضايقه، ولهذا لزم الصمت. في مثل هذه الأوقات، تشعر أنه يجب عليها التخفيف من حدة الأجواء شيئا فشيئا مهما تطلب ذلك من وقت.
أخذ يحدق في حركة أصابعها دون أن يقول شئ. لم يقل شيئا لأنه لم يكن يعرف ماذا يمكن أن يقول. نسى في صمته وشروده بعض القهوة في كوبه حتى بردت وأصبحت هيئتها تبعث على النفور وكأنها بقايا لبعض الطين الراكد في الكوب.
تذكر أنه قد تخطى العشرين للتو، وهي أكبر منه بسبع سنوات، متزوجة، ولديها طفل. بالنسبة له، كان يجب أن تكون في سعادة غامرة كلما كانت معه.

كان زوجها يعمل لحساب وكالة سفر متخصصة في الرحلات إلى الخارج. ولهذا كان يقضي ما يقارب النصف من كل شهر في أماكن مثل لندن، روما وسنغافورة. كان من السهل ملاحظة حب زوجها لموسيقى الأوبرا، حيث وجد على رفوف حجرته ألبومات لمؤلفين موسيقيين مثل فيردي، بوتشيني، دونيزيتي وريتشارد ستراوس. تبدو هذه الرفوف الطويلة وكأنها تمثل نظرة زوجها إلى العالم أقرب من كونها ألبومات مسجلة لنوع من الموسيقى، كانت نظرة هادئة وراسخة، وليس من السهل تغيير طبيعتها كثيرا.
أخذ ينظر إلى الرفوف المملتئة بالألبومات ويمر بعينيه على أسمائها. كان من الصعب عليه أن يتخيل أنه من الممكن أن يستمع إلى هذا النوع من الموسيقى يوما ما. في الحقيقة، لا يعلم إن كانت ستعجبه هذه الألبومات لو استمع إليها، ولكن لم تأت فرصة ليفعل شئ كهذا. لم يكن هناك أي شخص من أفراد عائلته أو أصدقائه أو معارفه يحب موسيقى الأوبرا أو معجبا بها. كان يعلم أن هناك شئ في هذا العالم يدعى الموسيقى الأوبرالية، وأن هناك أناس يحبونها في عصرنا هذا، ولكن دخوله الأول إلى هذا العالم كان عندما ألقى بنظرة على ألبومات هذا النوع من الموسيقى على رفوف غرفة زوجها.

أما الزوجة، فلم تكن مولعة بموسيقى الاوبرا على نحو خاص.
قالت له: لا أكرهها، ولكنها طويلة للغاية.

وجد بجوار الألبومات جهاز ستريو رائع للغاية، لم يكن قد أستمع إلى صوته من قبل، أو جرب أن يلمسه، وأما هي، فلم تكن لديها أي فكرة أين تجد مفتاح تشغيله. أخذ يتنقل بأريحية بين الغرف الأخرى، والتي كان أثاثها أكثر عصرية من غرفة زوجها. شعر بعد أن انتهى من جولته كما لو أن غرفة الزوج استثناء بين الغرف المنزل بكل ما فيها.

قالت له: ليس هناك ما هو خطأ في حياتي، زوجي يعاملني جيدا للغاية، وأحب أبنتي، أظن أنني سعيدة. كانت تقول تلك الكلمات بصوت هادئ، تتحدث عن زواجها وحياتها بطريقة موضوعية للغاية، وكأنها -مثلا- تناقش قوانين المرور!
"أعتقد أنني سعيدة، ليس هناك ما هو خطأ في حياتي."

كثيرا ما سأل نفسه متحيرا: لماذا إذا بحق الجحيم تنام معي؟ كان يفكر في الكثير من الاحتمالات كلما طرح هذا السؤال على نفسه. ولكنه لم يستطع الوصول إلى أي إجابة. ماذا كانت تعني عندما قالت كلمات مثل "ليس هناك شئ ما خطأ في حياتي" ؟ ماذا يمكن أن يكون هذا الشئ الخطأ في زواجها؟ أحيانا كان يفكر في أن يسئلها بشكل مباشر، ولكنه لم يكن يعلم كيف يبدأ. ما الذي يجعلك تنامين معي بحق الجحيم؟ هل يجب أن يوجه لها السؤال بهذه الطريقة؟ كان متأكدا من أن هذا سوف يجعلها تبكي.

لقد بكت بما فيه الكفاية؛ بكت لفترات طويلة من قبل؛ كلما بكت، يصدر منها أصوات خافتة تبعث على الألم. لم يكن يعلم في غالب الوقت لماذا تبكي، ولكن بمجرد أن يبدأ نحيبها الخافت، فلا يمكنها التوقف. حاول أن يُهدئ من سريرتها قدر الإمكان، ولكنها لم تكن تهدأ إلا بعد مرور بعض الوقت. في الحقيقة، لم يكن عليه أن يفعل شئ، فبمجرد مرور بعض الوقت كانت تتوقف عن البكاء، وكأن دموعها قد نفذت.

مر بتجارب مع نساء أخريات، كلهن تشعرن بالغضب وتبكين، ولكن طريقتها في البكاء كانت مختلفة عن أي منهن. بالتأكيد هناك ما هو مشترك بينها وبينهن، ولكنها مختلفة في الكثير من الأشياء لدرجة أنه لا يستطيع احصاء هذه الاختلافات. بالنسبة له، كانت التجربة الاولى مع امرأة تكبره في العمر، ولكن هذا الفرق في العمر لم يزعجه كما كان يتوقع. ما أزعجه حقا هو اكتشافه كم الأختلافات الكبيرة بين ميوله وتفضيلاته من جهة وميولها وتفضيلاتها من جهة أخرى. أصبح هذا الأمر بالنسبة له لغز حيره كثيرا، ولم يكن تفكيره في هذا الأمر لأوقات طويلة قد ساعده أو ألهمه العثور على مفتاح لحل هذا اللغز.

تعودا ممارسة الحب بعد أن تنتهي من بكائها. أحيانا، ترفض أن تقوم بأي شئ معه، تبدي رفضها بهزة من رأسها دون أن تتفوه بكلمة. يشعر بعدها أن عينيها تبدوان مثل قمرين كاملين يطفوان على حافة العتمة التي تغشى السماء. عندما يرى عينيها بهذا الشكل، يعلم أنه ليس هناك من شئ يمكن أن يقدمه لها. هذه النظرة من عينيها تعني رفضها القيام بأي شئ معه، تاركة إياه يشعر بالغضب والحزن. وفي أحيان أخرى، يمكنها أن تجعله يشعر بالراحة الحقيقية من أعماقه. هكذا كانت تمضي الأمور بينهما ولا شئ آخر غير ذلك.
في بعض الأوقات يجلسان قبالة بعضهما البعض إلى طاولة المطبخ، يرتشفا بعض القهوة، ويتحدثا بهدوء. لم يكن أي منهما يمتلك قدرة كبيرة على الحديث، كما أنه لم يوجد بينهما الكثير ليتحدثا بشأنه. لم يستطع أن يتذكر يوما عن أي شئ كانا يتبادلا الحديث. فلم تكن سوى جمل قليلة يقطعها الصمت أو مرور قطار في الجوار من حين لآخر.

غلب على ممارستهما للحب شئ من الهدوء واللطف. حتى أنه لايمكنك القول أنه ممارسة للحب من أجل الاستمتاع بالإثارة القوية وإشباع الجنس بشراهة. ليس من الصحيح أيضا القول بأنهما لم يكونا يستمتعان بتلاصق جسديهما عاريان كرجل وامرأة يمارسان الحب. ولكنه شيئا بعيدا عن هذه الإثارة الشديدة والرغبة الجامحة وأساليب الجنس التي كان قد جربها وتعود عليها من قبل.
كانت ممارسته للحب معها تجعله يشعر وكأنه في غرفة صغيرة ومريحة، بها الكثير من الخيوط الملونة المتدلية من السقف. خيوط متعددة الأشكال والأطوال، وكل خيط يبعث شئ من البهجة بطريقة متفردة عن الخيوط الأخرى. أراد أن يسحب أحدى هذه الخيوط ولكنه لم يكن يعرف أيهم يريد. شعر بأنه في اللحظة التي سيسحب فيها خيط منهم، سينفتح أمام ناظريه مشهد لمسرحية رائعة. ولكن المشهد كان من الهشاشة بحيث من السهل تحطيم كل شئ في لحظة. ولذلك كان مترددا، وفي كل مرة، ما إن يحاول تهدئة نفسه ويتريث ليتلاشى ارتباكه، حتى يجد أن يوما آخر معها قد انتهى.

صعُب عليه استيعاب هذا الشعور الغريب الذي كان ينتابه معها. اعتقد أنه يعيش حياته وفقا لقواعد قد وضعها هو بنفسه. ولكن عندما يكون في غرفتها، مستلقيا بين ذراعيّ هذه المرأة التي تكبره في العمر، مستمعا بين حين وآخر لأصوات حركة قطارات الركاب في الجوار، يشعر حينها أنه يعيش في فوضى كاملة. مرة تلو الأخرى يسئل نفسه: هل أحبها حقا؟ ولكنه لم يستطع الحصول على إجابة تقنعه بشكل تام. كل ما كان متأكدا منه هو هذه الخيوط الملونة التي يراها تتدلى من سقف الغرفة الصغيرة المريحة التي طالما تخيلها كلما مارس الحب معها.

تعودت أن تلقي نظرة على الساعة بعدما ينتهيا من ممارسة الحب، ومن ثم تستلقي بين ذراعيه. مر قطار في الجوار عندما نظرت إلى الساعة؛ كان هذا شيئا غريبا، فكلما نظرت إلى الساعة كانت تسمع صوت قطار في الجوار. وكأن هذا الأمر مترابط شرطيا؛ مقدرا له الحدوث مسبقا.

حرصت على تفقد الوقت بين حين وآخر حتى تتأكد أنه لم يحن بعد ميعاد عودة ابنتها ذات الأربعة أعوام من رياض الأطفال. حدث ذات مرة واستطاع أن يلقي نظرة على ابنتها؛ وجدها طفلة صغيرة تشع جمالا. هذا هو الانطباع الوحيد الذي تركته فيه. ولحسن الحظ، لم ير من قبل الرجل الذي كان يعمل في وكالة رحلات ويحب موسيقى الأوبرا؛ والذي كان زوجها.

بعد ظهيرة أحد أيام شهر مايو، سألته لأول مرة عن تحدثه إلى نفسه بتلك الطريقة. بكت في ذلك اليوم مرتين؛ ومارسوا الحب مرتين. لم يستطع سؤالها عن سبب بكائها مرة أخرى. ربما أرادت أن تبكي من أجل البكاء ولا شئ آخر. جال بخاطره تساؤل: ربما لا يمكنها أن تتحمل الجلوس والبكاء وحيدة، ربما لهذا ترغب في وجودي، لأنها احتاجت إلى من تبكي بين ذراعيه.

في ذلك اليوم، أغلقت الباب وأسدلت الستائر، واستمتعا بكونهما مع بعضهما البعض يمارسا الحب بلطف وهدوء كما اعتادا دائما. رن جرس الباب، فجفلت للحظة ولكنها تجاهلته. قالت: لا عليك، ليس هناك من شئ. رن الجرس أكثر من مرة ولكن في النهاية استسلم الطارق ورحل. كما قالت، ليس هناك من شئ، ربما كان رجل مبيعات. ولكنه تسائل: كيف يمكنها أن تعلم!
سمع همهمة لقطار، وصوت عزف على البيانو يأتي من بعيد. استطاع أن يميز النغمة التي سمعها، تذكر أنه قد استمع إليها مرة في حصة الموسيقى، ولكنه لم يستطع تذكر أي مقطوعة كانت على وجه التحديد، فقد مر على ذلك وقت طويل. أغلقت عيناها، تنفست بعمق، ثم أكملا ممارستهما للحب بأقصى ما يمكن من لطف وهدوء.

بعد أن انتهيا، قام من السرير ليستحم؛ وعندما عاد إلى الغرفة وهو يجفف نفسه بمنشفة الاستحمام، وجدها مستلقية على السرير مغمضة العينين ووجها لأسفل؛ جلس بجوارها، مداعبا أسفل ظهرها وهو يتتبع بعينيه أسماء ألبومات موسيقى الأوبرا على رفوف الحجرة.
بعد ذلك بقليل، قامت هي أيضا وارتدت ملابسها ثم ذهبت إلى المطبخ لتعد بعض القهوة لكليهما. عندما ذهب إليها سألته على حين غرة: هل هي عادة قديمة أن تتحدث إلى نفسك بهذه الطريقة؟
قال: أي طريقة؟ هل تقصدين عندما نمارس الحب معا؟
قالت: لا، ليس هذا ما أقصده، أقصد في أي وقت، مثلا عندما تستحم، أو عندما أكون في المطبخ وأنت تجلس تقرأ جريدة أو شئ من هذا القبيل.
قال: ليس لدي أي فكرة عما تقولين! لم ألحظ ذلك من قبل، هل أتحدث إلى نفسي حقا؟
قالت وهي تلعب بولاعته: نعم، أنت تقوم بذلك بالفعل.
قال: لا، لا أصدق أنني أقوم بذلك.
قال هذه الكلمات وقد بدا الإنزعاج واضحا في نبرات صوته. وضع سيجارة “Seven Stars” في فمه، أخذ ولاعته منها وأشعلها. كان قد بدأ تدخين السجائر منذ وقت قريب، وقد اعتاد على سجائر من نوع “Hope”، ثم عرضت عليه هذا النوع الذي يفضله زوجها فوجد أنه أفضل.
قالت: أنا أيضا اعتدت الحديث إلى نفسي كثيرا عندما كنت أصغر من ذلك.
قال: حقا!
قالت: نعم، ولكن والدتي جعلتني أتوقف عن فعل ذلك. كانت تقول لي: لا يصح أن تتحدث شابة مثلك إلى نفسها. كانت تغضب بشدة كلما رأتني أفعل ذلك، وحبستني أكثر من مرة في حجرة صغيرة كانت تستخدمها كخزانة للمنزل. بالنسبة لي، كانت هذه الخزانة هي أكثر الأماكن رعبا. فالمكان كله مظلم ورائحته عفنة. أحينا كانت تضربني بمسطرة على ركبتيّ، وقد نجحت طريقتها خلال مدة قصيرة، وجعلتني أتوقف عن الحديث إلى نفسي نهائيا. بعد فترة، لم أستطع القيام بذلك حتى لو أردت.

لم يتمكن عقله من التفكير في أي شئ، ولهذا سكت ولم يعلق.
قالت: من وقتها وحتى الآن، دائما ما أشعر أنني أريد أن أقول شيئا ما ولكنني ابتلع الكلمات، وكأنه عرض عكسي لما كنت عليه. لم أكن أعرف ما الخطأ في أن يتحدث المرء إلى نفسه، فهذا شئ طبيعي، إنها مجرد كلمات تخرج من فمك. لو كانت والدتي لا تزال على قيد الحياة لكنت سألتها عن ذلك، ما هو الخطأ في أن يتحدث المرء إلى نفسه.
قال: هل ماتت؟
قالت: نعم، ولكنني كنت أتمنى لو كانت الأمور بيني وبينها أكثر وضوحا. كنت أود أن أسألها: لماذا كنتِ تفعلين ذلك معي؟
قالت ذلك وهي تلعب بملعقة القهوة، ألقت نظرة على ساعة الحائط، وفي اللحظة التي نظرت فيها، مر قطار في الجوار. انتظرت حتى يمر القطار ثم قالت: أحيانا أفكر في أن قلوب البشر مثل آبار عميقة، لا أحد يعلم ماذا يوجد في باطنها. كل ما يمكنك فعله هو أن تتخيل ما يكمن في القاع عن طريق ما يطفو على السطح من حين لآخر. سكت كل منهما وبدا وكأنهما يفكران في هذا التشبيه المتعلق بالآبار، ثم سألها: ما الذي أقوله عندما أتحدث إلى نفسي؟
هزت رأسها ببطأ بضعة مرات محاولة أن تتذكر شيئا ثم قالت: حسنا، تقريبا كنت تتحدث عن الطائرات.
قال: طائرات!
قالت: نعم، الطائرات التي تحلق في السماء.
ضحك وقال: لماذا من بين كل الأشياء، أتحدث إلى نفسي عن الطائرات؟
ضحكت هي أيضا وسألته: هل لا تتذكر حقا ما كنت تقوله لنفسك؟
قال: لا أتذكر أي شئ.
التقطت قلم حبر من على الطاولة، أخذت تلعب به لثواني، ثم نظرت إلى الساعة من جديد وقالت: تتحدث إلى نفسك كما لو أنك تلقي شعرا.
بدا له واضحا أن الحمرة قد غمرت وجهها، لماذا تذكرها لحديثي إلى نفسي يغمر وجهها بالحمرة؟ حاول أن يقول الكلمات بقافية معينة: أنا أتحدث إلى نفسي/ غالبا كما لو/ أنني ألقي/ شعرا.
التقطت القلم من على الطاولة مرة أخرى، كان قلم حبر من البلاستيك ولونه أصفر؛ عليه كتابة تتحدث عن مرور عشر سنوات على تدشين هذه النوع من أقلام الحبر.
نظر إلى القلم بين يديها وقال: في المرة القادمة التي تسمعينني فيها أتحدث إلى نفسي، أخبريني بما أقوله. هل يمكنك أن تفعلي ذلك من أجلي؟
نظرت إلى عينيه مباشرة وقالت: هل تريد حقا أن تعرف؟
أومأ برأسه مجيبا على سؤالها بنعم.

أخذت ورقة من أوراق تسجيل الملاحظات وبدأت في كتابة شئ ما. كتبت ببطأ ولكن القلم استمر في الكتابة دون أن تتوقف للحظة لترتاح أو تلقي نظرة على شئ مما كتبت. نظر سارحا إلى جفنيها ورموش عينيها واضعا ذقنه ين يديه. تأمل عينيها وهي تطرف كل بضع ثواني على فترات غير منتظمة.
وكلما طال وقت تأمله لها و لرموشها التي بللتها الدموع في الكثير من الأوقات، كلما كان أقل فهما لما يمكن أن يعنيه كونه معها، ما الذي يمكن أن تعنيه ممارستهما للحب؟ إحساس غريب بالضياع كان يتملكه في هذه اللحظات. شعر أنه ربما لن يتمكن أبدا من ممارسة الحب مع أي امرأة أخرى بعدها. انتابه شئ من الرعب عندما مرت هذه الفكرة بخاطره، وكأن وجوده هو نفسه آخذ في التلاشئ كلما مر الوقت بقربها.

توقفت عن الكتابة ووضعت الورقة قبالته على الطاولة. أخذها وألقى نظرة عليها. قالت له: أشعر أن ما كنت تقوله عن الطائرات شئ ما بداخلك، في قلبك.
قرأ الكلمات بصوت مسموع
طائرات
طائرات تحلق
أنا، في الطائرة
الطائرة
تحلق
ولكن لا يزال، على الرغم من أنها حلقت
كل ما يتعلق بالطائرة
في السماء؟
قال مشدوها: كل هذا!!
قالت: نعم، هذا هو كل شئ.
قال: مستحيل، لا يمكنني تصديق أنني قد قلت كل هذا إلى نفسي دون أن أتذكر أي شئ عنه.
ابتسمت ابتسامة صغيرة ولكنها بدت مشجعة؛ وقالت: نعم، أنت قلت كل ذلك كما كتبته لك في الورقة.
قال: هذا شئ غريب للغاية، أنا لم أفكر يوما في الطائرات. ليس لدي شئ في ذاكرتي متعلق بالطائرات، لماذا إذن أتحدث عنها؟
قالت: لا أعلم، ولكن هذا ما كنت تقوله أثناء الاستحمام. ربما لا تكون قد فكرت في الطائرات من قبل، ولكن عميقا كما في قلب غابة كثيفة، قلبك قد فكر فيها.
قال: من يعلم، ربما يكون الأمر حقا كما تقولين.

أفلتت قلم الحبر، تاركة إياه يسقط من يدها على الطاولة مصدرا صوتا ضئيلا، ثم رفعت عينيها محدقة فيه وهو يجلس أمامها. ظلا صامتين لبعض الوقت حتى بردت قهوة كل منهما. كانت الأرض تدور على محورها، والقمر يتحرك تدريجيا محركا معه المد والجزر والجاذبية، يزداد الصمت، والقطارت تمر على القضبان في الجوار.
كان كل منهما يفكر في الشئ ذاته: طائرة. الطائرة التي كان يتحدث عنها إلى نفسه دون أن يتذكر أي شئ مما يقوله. كيف يمكن أن يكون حجمها، شكلها، لونها، وإلى أين هي ذاهبة؟ ومن سوف يسافر عليها؟ ربما كانت تنتظر من يسكن في قلب تلك الغابة الكثيفة التي تشبه قلبه؛ ربما هو من كان في الغابة يصنع هذه الطائرة، وها هي الآن تنتظره.
بكت بعد ذلك بقليل، كانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي تبكي فيها مرتين في نفس اليوم. قام من كرسيه واقترب منها واضعا يده على شعرها، فبعد ما حكت له، بدأ يصدق في داخله أنه يتحدث إلى نفسه كما لو كان يلقي شعرا.
شعرت بأن هناك شيئا ما بداخلها هو ما جعلها تبكي مرة أخرى، وكأن الحياة ذاتها هي ما دفعتها لذلك؛ الحياة التي أحيانا ما تكون صعبة، وأحيانا أخرى تكون ناعمة، وفي بعض الأحيان تكون بعيدة المنال.

Jay Rubin (من اليابانية إلى الإنجليزية)
محمود حسني (من الإنجليزية إلى العربية)
 
 رابط تحميل القصة بصيغة PDF:
https://www.mediafire.com/?k19bflmev1mof34#sthash.KVLm3UrI.dpuf
رابط تحميل القصة بصيغة PDF:

السبت، 6 سبتمبر 2014

كونديرا ووزير الثقافة .. عن ندوة الدراما والتاريخ

في 11 أغسطس الماضي، سافرت إلى القاهرة، إلى المجلس الأعلى للثقافة بدار الأوبرا، لحضور ندوتين متتابعتين عن الدراما والتاريخ. وكان الغرض منهما مناقشة الأخطاء التاريخية في عملين دراميين في رمضان. أحدهما بعنوان صديق العمر ويتناول علاقة الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر. والآخر بعنوان سرايا عابدين ويتحدث عن فترة حكم الخديوي إسماعيل. كانت الندوة الأولى في حضور وزير الثقافة. والندوة الثانية كانت من إدارة الصحافي والكاتب الساخر محمد عبدالرحمن الذي تفضل ودعاني لحضور هذا اليوم الذي سأحدثكم عنه.

وصلت قبل الميعاد بساعة تقريبا. وجلست منتظرا حتى بدأت الندوة الأولى. بدأ دكتور جابر عصفور وزير الثقافة يتحدث عن رغبته في أن تكون الندوة عن الأدب والفن ودور التاريخ وأثره فيهما. كان يريد من هذا الاقتراح أن يكون من الأفضل تعميم الحديث في هذا الشأن. أتى الكثير من الأدباء والصحفيين، أساتذة التاريخ ورجال السينما من فنانين ومخرجين وكُتاب سيناريو بالإضافة لكاميرات القنوات الفضائية والتليفزيون الرسمي بمذيعيها ومصوريها، يسلطون كاميراتهم على الوزير وهو يقول كلمته في بداية الندوة ثم يرحلون.

لم يعد هناك يا سادة من يريد مضموناً، الأهم هو أن تظهر هذه القنوات على أنها ترعى الثقافة في مصر وتغطي أحداثها، وهي من الثقافة بريئة ولا تعلم عنها شيئا. إنه عصر الصخب والضجيج والحديث دون مضمون. إنه وقت الإيماغولوجيا –سلطة وسائل الإعلام- كما سماها ميلان كونديرا في روايته "الخلود". أتذكر أحد الصحفيين كان قد انزعج في نهاية اليوم لأنهم لم يعطوا الكلمة للصحفيين، الجميع يريد الحديث، من يستمع إذاً إن تحدث كل هؤلاء.  صخب...

ينتهى الوزير من كلمته وتبدأ الندوة، يظهر على وجهه الانزعاج كلما تكلم أحد من الحضور. يزداد الانزعاج بمرور الوقت حتى يضطر إلى أن يبتلعه بأكواب متلاحقة من المياه في صمت.  يتحدث بكلمات قليلة مع أستاذ التاريخ د.محمد عفيفي المسئول عن الندوة  بعدها يطلب أستاذ التاريخ من المحاضرين الالتزام بالوقت.
تبدأ الندوة الثانية، يأتي محمد عبدالرحمن إليّ مرحبا مبتسما في أول مرة أراه فيها على أرض الواقع وخارج نطاق وسائل التواصل المميتة. ولكنه يُشعِرك كأنه معتاد على وجودك بعفويته وتلقائيته الكريمة. يقدمني لـ الكاتب الروائي هشام الخشن ويقول له: محمود، من كتب مقال نقدي عن رواية 1919 لمراد، وأرسلته لك. تنفرج أسارير الرجل عندما يتذكر المقال ويرحب بي بشدة، ويشكرني على موضوعيتي التي لم أبتغيها يوما فيما أكتب. يرسل في طلب روايته الجديدة جرافيت ويكتب إهداءه على الرواية ويهديها لي طالبا رأيي فيها بأقرب وقت ممكن. ألهمتني روايته وعشر دقائق من الحديث معه بمقالين. وألهمتني خمس ساعات من الحضور لندوة شبه أكاديمية بهذا المقال. وعلى الرغم من أن الندوة كان بها الكثير من الأشياء الجيدة، إلا أن الصخب قد آلمني وجعلني في أشد الاحتياج إلى الهروب.

تحدثت مع الروائي هشام الخشن عن ساراماجو وإبراهيم الكوني، عن موراكامي وإيزابيل ألليندي وفرانز كافكا. كانت العشر دقائق التي قضيتها معه من الكثافة ما يعوض خفة الندوة إن أسقطنا المعنى على رواية أخرى لكونديرا "خفة الكائن التي لا تحتمل".

أثناء الندوة التي أدارها محمد عبدالرحمن انتفخت أوداج رجل كبير في السن لأن الفنان صبري فواز قال أن الفن ابن زمنه ولا ترموا على عاتقه فشل المدارس والجامعات في أداء دورها في التوعية والتربية. اتفق صبري فواز وأحمد سلامة وطارق الشناوي على أن مصر ليس عليها مؤامرة، ولكن الرجل الذي انتفخت أوداجه منذ قليل لم يتحمل هنا وأخذ ينفجر مجلجلا بصوته في القاعة ليعلن أن مصر عليها مؤامرة، وأن الليبراليين بمن فيهم وزير الثقافة يريدون هدم مصر. أحمد الله أن وزير الثقافة كان قد غادر القاعة، فلا يتسع خيالي لأرى ما الذي كان سيحدث وسط كل هذا الصخب لو كان الوزير لا يزال في القاعة. كل هذا دفع محمد عبدالرحمن لمحاولة كسر حدة الانفعال والصخب بإعلانه بطريقته الساخرة كالعادة أن الندوة هي التي عليها مؤامرة ليتم إفشالها، لتهدأ النفوس قليلا وتزداد الضحكات وتتعالى المحادثات الجانبية. صخب...

انتهى اليوم وأنا منهك كليا، ظللت اتسائل طوال رحلة عودتي إلى المنزل: هل كل هذا الصخب الذي يحيط برجال الصحافة والفن والأدب والثقافة هو ما أريده؟ إنني أكتب في ساعات الضحى الأولى هربا من صخب المدينة والمنزل والعمل. أكتب غير راضٍ عما كتبت. فما بالكم بنوعية وجودة ما سأنتجه وسط كل هذا الصخب. حتى هذه الندوة لم استطع الكتابة عنها إلا بعد مرور ما يزيد عن ثلاثة أسابيع.