الثلاثاء، 17 يونيو 2014

الأدب الآيروسي .. بين عزازيل وشيكاجو

محمود حسني




بداية يجب القول أنني أرى الكتابة الأدبية وخاصة الرواية هي أكثر ما يمكن أن يعبر عن التجربة الإنسانية، سواء التي مر بها الكاتب أو منهم حوله. ولأن التجربة الإنسانية عميقة ومتشعبة ومتعددة الجوانب، ولأن الجنس جزء أصيل من التجربة الإنسانية، فكان من الطبيعي أن يعبر الأدب عن الجنس كجزء أساسي من طبيعتنا الإنسانية، وهذا التناول يضفي الكثير من المصداقية على العمل الأدبي،ويجعله أقرب إلى القارئ. وكما أقول دائما، ليس المقصود بالصدق هو صدق الوقائع وتفاصيلها، بل صدق المشاعر والأفكار التي كتب بها الأديب عمله الروائي. ولهذا فإن تناول الجانب الجنسي من حيوات الشخصيات الروائية – سواء بشكل مباشر أو غير مباشر – يجعلنا نشعر بعمق التجربة الإنسانية، التي يعبر عنها الأديب وحقيقة ملامستها لنا ولهواجسنا ونوازعنا.
ولهذا، لم يكن السؤال هو: هل يجب أن يعبر الأدب عن الجانب الجنسي من التجربة الإنسانية أم لا. بل – في رأيي – كيف يمكن أن يعبر الأدب عن الجنس؟ كيف يمكن أن يكون للأدب الدور الأكثر رقيّاً في إضفاء معنى إلى الحياة الجنسية أكثر عمقاً من فكرة الاحتكاك الجسدي البدائي؟ ومن جهة أخرى، غالباً ما نجد هجوماً شديداً على التجربة الأدبية التي تتناول بين طياتها الحياة الجنسية لشخوصها، خاصة إن كان ظهور هذا العمل الأدبي في مجتمع محافظ، والذي يعتبر الجنس وفقاً لتقاليده من أكثر الأشياء سرية على الأقل كما يبدو على السطح. ودائما ما يتم تعليل الهجوم، بأن القضية ليست قضية تناول التجربة الجنسية لكن في الألفاظ التي يعبر بها الكاتب عن هذه التجربة.
ولكن أليس من الصعب للغاية في كثير من الأحيان، ألا يكون الأدب صريحاً ومستخدماً ألفاظاً قوية وصياغات واضحة في وصف التفاصيل الجنسية وربطها بأفكار الشخصيات ومسارات الأحداث، بل وجعل الجنس في أحيان كثيرة المحور الأساسي الذي يدور في فلكه حيوات الشخصيات، بل والدافع الخفي لتحركهم في مسارات الاحداث الروائية المتشابكة! ألن يصاب العمل بفتور وسطحية إن اعتمدنا غالبا على التلميح في كل موضع يخص الجانب الجنسي. فإن اتفقنا على احتياج العمل الأدبي في أحيان كثيرة إلى الوضوح والمباشرة في التعبير عن التجربة الجنسية وجعلها محور الأحداث ومحرك الشخصيات، فإننا بشكل أو آخر نقصد بكلامنا هذا ما يسمى بالأدب الأيروتيكي.
وتاريخ الأدب العربي سواء كان ذلك في الشعر وخصوصاً مع أبي نواس، أو في النثر وخصوصاً مع السيوطي، يجعلنا نعتقد أنه من الممكن أن يعبر الكاتب عن التجربة الجنسية كجزء من الحالة الانفعالية بكل تفاصيلها، دون ابتذال أو فجاجة، وبدرجات من الرقي أعلى بكثير مما تعودنا أن نرى في الأدب العربي المعاصر، الذي غالبا ما يهتم بإضفاء مسحة غربية على طريقته في التعبير عن التجربة الجنسية. وسيكون بديهياً إن راودنا عند هذا الموضع سؤال مفاده: هل المباشرة في التعبير تعني الابتذال أو الفجاجة؟ وهل أصبحت كل رواية تتحدث عن الجنس، وإن كان بعهر فج وبشكل يتسبب في الغثيان، يمكن أن نضعها تحت مصطلح الأدب الأيروتيكي؟ هنا سيكون الجدل كثيفاً، لا يستطيع أن يسعه هذا المقال.
وسأنتقل لأعرض رأيي في عملين روائيين أجدهما من الأعمال المهمة في الأدب العربي المعاصر وهما: شيكاجو لعلاء الأسواني، وعزازيل ليوسف زيدان. شيكاجو هي الرواية الثانية للأسواني بعد عمارة يعقوبيان. واستخدم فيها نفس عناصر روايته الأولى، حتى اسم الرواية كان يعبر عن مكان ما. وفي شيكاجو كما في عمارة يعقوبيان وأيضا كما في عمله الثالث “نادي السيارات”، سنرى أن لدى معظم شخوص الرواية حالة من الهياج الجنسي سواء كان ذلك طبيعياً أو شاذاً. هذه التوصيف المباشر والصريح لحالة الرغبة الجنسية المشتعلة دائماً، هي ما تسير بهم في مسارات أحداث، تأخذ الرواية الى الطريق الذي أراد الكاتب أن تسير فيه، أو على الأقل إلى الطريق الذي من الممكن أن يؤدي إليه تشابك العلاقات بين الشخصيات وتعقُد احتياجهم الجنسي.
يكتب الأسواني روايته وينسج أحداثها بلغة جريئة وصريحة بشكل لم يعتد عليه القارئ العربي، خاصة وإن كان مؤلف الرواية عربياً، وليس أجنبياً وروايته مترجمة. يجعلك الأسواني تتصور تفاصيل الأحداث وملامح الشخصيات وتفاعلاتهم مع بعضهم البعض بوضوح، قليلين هم القادرين على الوصول إليه. كما أنه استطاع في رواياته الثلاث أن يمزج بين الجنس والسياسة بشكل مباشر للغاية، ليجعلهم أسرى لبعضهم البعض. وكنت سأشكر كل ما قلته عن شيكاجو وأتوقف عند هذه النقطة، لولا ما وجدته من فجاجة في وصف المشاهد التي تتعلق بالتجربة جنسية لدى شخوص الرواية. وليس من الصعب على القارئ أن يفرق بين الفجاجة والجرأة، وبين المباشرة في الحديث عن الجنس والابتذال. لم يتوقف الأمر عند الفجاجة أو الابتذال، بل تخطى هذا الحد، ليصيبني الأسواني بالشعور بالغثيان بسبب ما احتواه الوصف من بذاءة من الصعب احتمالها.
هل يمكن هنا أن نلتقط أنفاسنا، ونقول أنه كان في وسع الأسواني فعليا أن يتجنب ما أشرت إليه من عيوب في عمله، بتجنبه الوقوع في فخ البذاءة! هل يضع الأدب الأيروتيكي، كمفهوم، حداً تكون بعده الأعمال المُغرِقة في البذاءة قد خرجت من تحت مظلته؟ لا .. لم يضع شيئا، ولا أظن أن الأكاديمين سيفعلوا هذا يوما ما. لا أظنهم يهتمون أن يُخرِجوا الأعمال المُغرِقة في تفاصيل الاحتكاك الجسدي الأشبه بالحيواني بين الشخصيات الروائية خارج دائرة الأدب الأيروتيكي. لا أظنهم سيسعون يوما لأن يُسهِموا بنقدهم في إخراج الجنس من شكله البهيمي الذي تقصده بعض الأعمال – عمدا – التي لا تريد شئ سوى المبيعات. هذا ظني، وأرجو أن يخيبوه.
أما عزازيل، فهي الرواية الأهم في مسيرة يوسف زيدان الأدبية. بل أظن أنها واحدة من أهم الروايات في الأدب العربي المعاصر. فالهيكل التاريخي المحكم والكثيف الذي أحاط  بالأحداث التي تدور في حقبة لا نعلم عنها شئ تقريبا، واللغة القوية والمتناغمة، ورسم الشخصيات وأحاسيسهم وانفعالاتهم، كل هذا يجعل المرء يحب عزازيل، ويتغلب على صعوبة اللغة أحياناً، وضعف خلفيته التاريخية أحياناً أخرى. أراد يوسف زيدان أن يواجهنا بحقيقتنا كبشر، أراد أن يجعلنا نرى صعوبة مقاومة الغواية. الراهب هيبا، الشخصية الرئيسية في العمل، والذي استسلم للغواية مرتين، بين امرأة أعطته كل شئ يمكن أن تعطيه امرأة لرجل، وامرأة كان التردد بين التمنع والاقبال سمتها الأساسية.
لا أخفي دهشتي من جمال وصفه للغاوية التي تعرض لها هيبا. ولكن كان هناك دائما شئ ما يفسد عليّ استمتاعي بالعمل، شئ له علاقة بتصوير هيبا وكأنه ينتظر بفارغ الصبر لحظات الغواية حتى يقع فيها، وكأن تعاليمه الكنسية لم تضع في نفسه أي مقاومة أو تساعده على التمنع! ثم تأتي نقطة أخرى، أرى أن لها أهمية خاصة، وهي فكرة سرعة وقوع المرأتان في غرام الراهب هيبا، والذي كما صوره زيدان، غليظ الملامح، صعيدي الوجه، لا يتمتع بأي وسامة. لم يخبرنا يوسف زيدان في روايته عما كان يجيش في صدورهما وجعلهما يميلان لهذا الرجل الذي تبدو ملامحه أقل من العادي، وليس هناك بينه وبينهما الكثير من الحديث الذي من الممكن أن يجعلهما يقعان في حبه لرجاحة عقله أو قوة شخصيته مثلاً. كيف وقعا في غرامه حد الغواية! كانت هذه الأسئلة تدور في ذهني، أثناء قراءتي لمشاهد الغواية، ما الذي يجعلهما يقدمان على هذا! ما هي الدوافع التي حركتهما إلى هذا المسار تحديداً! ولكنني لم أستطع أن أجد إجابة على هذه التساؤلات.
وفي الوقت الذي اهتم فيه الأسواني بإبراز الدوافع التي جعلت حالة الولع الجنسي لدى شخوص عمله مفهومة بالنسبة للقاري، افتقد يوسف زيدان هذا العنصر بشدة، مما أفقد وصفه شئ من الأصالة. وفي الوقت الذي أظهر يوسف زيدان جمال وأناقة لغته حتى في وصف الغواية، سقط الأسواني في فخ الابتذال حد الغثيان. والسؤال الذي يباغتني عند هذا الموضع: ما هي الدرجة التي يقترب بها كلا العملين من حدود عالم الأدب الأيروتيكي؟ وهل نستطيع أن نضمهما إلى الأعمال التي تقع تحت تعريف هذا النوع من الأدب، أم هما فقط تماسا مع حدود هذا العالم!
وأما بخصوص الأدب الأيروتيكي كمفهوم، فهل يمكن أن تقترب هذه المدرسة لتتقاطع مع المدرسة الرومانسية؟ وإن كان هذا التقاطع صعباً، فهل يمكن أن يساهم أدبائنا في رسم جسر بين هاتين المدرستين بإفراز كتابات روائية مُجدِدة وبها شئ أكثر أصالة وابتكارية؟ هل يمكن أن نجد، يوما ما، عملاً روائيا نشعر فيه بجمال ورقيّ فن الباليه، وحميمية وعمق العلاقة الجنسية، دون تناقض أو ابتذال!

السبت، 7 يونيو 2014

حولية الموسيقى

violin-monochrome-a-concept-hd-widescreen-248248 
إنني أعد نفسي قارئا تجرأ على الكتابة، وأرى أن ما قرأته أهم بكثير مما كتبته، لأن المرء يقرأ ما يريد، ولكنه يكتب ما يستطيع. خورخي لويس بورخيس



الكتابة فعل يجعله يلهث وكأنه يعدو. دائما ما ينتابه هذا الشعور عندما ينتهي من كتابة مقال لا يتعدى طوله الثلاث أو الأربع صفحات. فكيف هو الحال عندما يكتب عن الموسيقى! كم هو في غاية الصعوبة أن يعبر بالكلمات عن شئ أكثر جمالا وشفافية من الكلمات. فالموسيقى جزء من تكوينه النفسي والوجداني. عندما يستمع إلى الكمانجات وهي تبكي، عندما يجد الكونتراباص والتشيلو يلاحقا بكائها بنحيبهما، ثم يأتي البيانو ليخفف من وطئة كل هذا الحزن ببعض دقات الفرح المتردد، فيُصِرّ الترومبيت على أن يصدح عاليا معلنا غضبه على كل هذا الأسى، فيأتي الإبو ليعترض على هذا الغضب بهدوء ورقة.


عندما قرأ مسرحية الكونتراباص لـ باتريك سوزكيند، وجده كم هو حانقا على الكونتراباص لأن ليس هناك مقطوعة حقيقية كُتِبت من أجل هذه الآلة. آه يا سوزكيند لو كنت قد استمعت إلى تشيلو آدم هِرست ووجدت كم هو عظيم، آه لو كنت تأملت كم هو فذ تشيلو كنان أبو عفش. عندما استمع لكنان لأول مرة شعر أنه يتخطى بعض حواجز طبيعتنا البشرية، وكأن هناك حبل خفيّ يربطه بالوجود كله، وكأن روحه قد ذابت حبا في الخالق كما يقول الصوفية، أو كأنه قد أصبح ينتمي للإنسانية كلها كما يقول اللامؤلهين، وكأنه قد تحرر من أي قيد. هل كان سوزكيند سيغير رأيه لو كان قد استمع إليهما قبل أن يكتب مسرحيته التي هي من أجمل ما يمكن أن يعبر عن مونودرما المسرح.


إن الموسيقى هي الأخت الشقيقة للقراءة، هي صديقة الكتابة، عندما يشعر أن الإيقاع الذي يكتب به يفتقد شئ ما، يتذكر حينها أنه لم يستمع إلى الموسيقى أثناء الكتابة، يجد الخلل في كلماته وطريقته واضحا عندما لا تترك الموسيقى أثرها على قلمه.


إنه حائرا للغاية، لا يدري كيف تفعل الموسيقى كل ذلك به، لم يشعر يوما أنه يملك الخيار في الانتماء إليها والتأثر بها أو تجاهلها. فقد وجد نفسه يسمع صوت قلبه واضحا عندما ينتمي لإيقاعها. يتذكر ذات يوم أنه قد توقف عن سماع الموسيقى أكثر من الشهر بقليل، وفي هذه الفترة ذهب إلى مكان يركن إليه عندما يريد العزلة، فسمع نصير شمة يقول بعوده اللامعقول مقطوعته الثانية، فشعر حينها أن نبض قلبه قد اضطرب، وصعدت الدماء لرأسه مسرعة، وعندما تبع مقطوعته الثانية بهلال الصبا والتي كانت قالب موسيقي جديد اقترحه على قوالب الموسيقى العربية، لم يتمالك نفسه وترك عينيه تفيض بما أُرِيد لها أن تفيض. كان يريد أن يعلو صوت العود أكثر وأكثر، كان يريد أن يتلاشى بين أوتار عوده، وهل هناك ما هو أكثر شفافية من الذوبان بين أوتار عود موسيقيّ احتُلّت بلده. وكأن العود قد حمل كل أسى أهل المكان الذي جاء منه.


عندما يهجره فعل القراءة ويقاطعه، عندما يهزم نضوبه الفكري قدرة قلمه على الكتابة، لا يجد سوى الموسيقى دربا وسبيلا. عندما تركته حبيبته، عندما عادت إليّه، عندما مرر أنامله على تفاصيل وجهها الناعس، عندما قبّل الثنِيّات على جانبي عينيها، عندما غلبتهما النشوة صعودا وهبوطا وكأنهما كيانا واحدا، شعر وكأنه أسير إيقاع خفي، إيقاع لا يفهمه بدقة ولكن يحبه، ولا يمكنه العزوف عنه، أو التوقف عن الحنين إليه.
 

السيسي .. فتوة الحارة .. الأخ الكبير يراقبك

10334372_878358245523849_1733036642352036253_n 
هو الذي يمكنه أن يجلب الأمن للحارة، ولكن هل يستطيع أن يجلب الأمان؟ يهابه الجميع، يعرف كل ما يدور في حارتنا، لا يترك صبيانه دبة النملة إلا وأخبروه بها. لم يكن له أن يصبح فتوة الحارة الجديد إن لم يهزم فتوتها القديم. تمر حارتنا هذه الأيام بأزمة كبيرة. فعلى مدار سنوات طويلة، تكالب عليها الجميع وسرقها طوب الأرض، حتى أصبحت أشبه بخرابة كبيرة. كل من استطاع أن يهاجر منها فعل ذلك. لم يبق فيها سوى المتشردين والمتسولين والمغيبين والفتوات وصبيانهم وحفنة ممن لم يستطيعوا مهاجرتها لأسباب متعددة، ومعهم أهل الخير الذين رأوا في الهجرة منها ضعف وهروب.
يأتي الفتوة الجديد بدعم من غالبية كهول أهل الحارة ونظرة ريبة من شبابها، يأتي- كما يقول – ليخلصهم من شر الفتوة القديم. صراحة، منذ فترة طويلة لم تهلل الحارة لقدوم فتوة كما تهلل لهذا الجديد. طالما اشتكى أهل حارتنا من ظلم الفتوات وتجبّرهم في الأرض. ولكنهم اليوم يستقبلونه بالرقص والزغاريد. غريبة حقا هي حارتنا، هل فكر أهلها، ولو لمرة، أنها لا تحتاج لفتوة يحميها، بل لوكيل عنها وعن أهلها يُصرِّف شئونها وشئونهم بمشورتهم؟ هذا هو السؤال الذي أدعي أن نجيب محفوظ كان سيسأله لو كان حيّ يرزق بيننا.
ولكن نجيب محفوظ كتب الإجابة عن سؤاله منذ زمن. كتبها في روايته “أولاد حارتنا”.
فقال: ومن عجب أهل حارتنا أنهم يضحكون! علام يضحكون؟ إنهم يهتفون للمنتصر أياً كان المنتصر، ويهللون للقوي أياً كان القوي، ويسجدون أمام النبابيت، يداوون بذلك كله الرعب الكامن في أعماقهم. غموس اللقمة في حارتنا الهوان. لا يدري أحد متى يجيء دوره ليهوي النبوت على هامته

هل يمكن أن تطابق إجابة واقعنا الذي نحياه اليوم كما تطابقه هذه الكلمات!
ولكنني لا أكتفي بإجابة واحدة. مهما تجلت آيات الحكمة فيها. فها هو جورج أورويل يجلس مع نجيب محفوظ في قهوة ريش بوسط البلد ليحتسوا القهوة. يفكر جورج أورويل لبرهة من الزمن في إجابة محفوظ. تتردد بين جنبات رأسه صدى روايته “1984″ التي لا أظن أن هناك بشر يمكنه يوما ما أن يكتب شئ مثلها. ينظر له محفوظ بتأمل وعلى جانب شفتيه ابتسامة بسيطة ويسأله: لم كل هذا التفكير يا صديقي؟
يخرج جورج أورويل عن صمته وينفض خيالاته ويقول له بصوت مسموع ولكنه كمن يحدث نفسه: هل يمكن أن يكون الفتوة في أولاد حارتنا هو الأخ الكبير الذي يراقبنا جميعا في 1984! هل يمكن أن يكون الفتوة الذي يدعو الناس إلى تحمل المشقات والنوم نص بطن هو من يصدح إعلامه بدعوات التقشف وتقليل النفقات!
هل مازالت تُصدِق حارتك أعداءه الوهميين! هل مازالوا يظنون أنه – هو وحده – من يستطيع أن يوفر لهم الأمن ولو على حساب حريتهم! ما قيمة كل ما كتبنا إن كانوا مازالوا يصدقونه! هل سنظل نتأرجح بين أخ كبير يراقبنا أو فتوة حارة يذيق أهل حارته المرارة! إلى أين يمكن أن يقودنا هذا العبث! متى سينتزع أهل الحارة الخوف من قلوبهم، متى سيتوقف أعضاء الحزب عن نفاق الاخ الكبير. متى يمكننا أن نسير في بلادنا مرفوعي الرأس منتصبي الظهر!