السبت، 7 يونيو 2014

حولية الموسيقى

violin-monochrome-a-concept-hd-widescreen-248248 
إنني أعد نفسي قارئا تجرأ على الكتابة، وأرى أن ما قرأته أهم بكثير مما كتبته، لأن المرء يقرأ ما يريد، ولكنه يكتب ما يستطيع. خورخي لويس بورخيس



الكتابة فعل يجعله يلهث وكأنه يعدو. دائما ما ينتابه هذا الشعور عندما ينتهي من كتابة مقال لا يتعدى طوله الثلاث أو الأربع صفحات. فكيف هو الحال عندما يكتب عن الموسيقى! كم هو في غاية الصعوبة أن يعبر بالكلمات عن شئ أكثر جمالا وشفافية من الكلمات. فالموسيقى جزء من تكوينه النفسي والوجداني. عندما يستمع إلى الكمانجات وهي تبكي، عندما يجد الكونتراباص والتشيلو يلاحقا بكائها بنحيبهما، ثم يأتي البيانو ليخفف من وطئة كل هذا الحزن ببعض دقات الفرح المتردد، فيُصِرّ الترومبيت على أن يصدح عاليا معلنا غضبه على كل هذا الأسى، فيأتي الإبو ليعترض على هذا الغضب بهدوء ورقة.


عندما قرأ مسرحية الكونتراباص لـ باتريك سوزكيند، وجده كم هو حانقا على الكونتراباص لأن ليس هناك مقطوعة حقيقية كُتِبت من أجل هذه الآلة. آه يا سوزكيند لو كنت قد استمعت إلى تشيلو آدم هِرست ووجدت كم هو عظيم، آه لو كنت تأملت كم هو فذ تشيلو كنان أبو عفش. عندما استمع لكنان لأول مرة شعر أنه يتخطى بعض حواجز طبيعتنا البشرية، وكأن هناك حبل خفيّ يربطه بالوجود كله، وكأن روحه قد ذابت حبا في الخالق كما يقول الصوفية، أو كأنه قد أصبح ينتمي للإنسانية كلها كما يقول اللامؤلهين، وكأنه قد تحرر من أي قيد. هل كان سوزكيند سيغير رأيه لو كان قد استمع إليهما قبل أن يكتب مسرحيته التي هي من أجمل ما يمكن أن يعبر عن مونودرما المسرح.


إن الموسيقى هي الأخت الشقيقة للقراءة، هي صديقة الكتابة، عندما يشعر أن الإيقاع الذي يكتب به يفتقد شئ ما، يتذكر حينها أنه لم يستمع إلى الموسيقى أثناء الكتابة، يجد الخلل في كلماته وطريقته واضحا عندما لا تترك الموسيقى أثرها على قلمه.


إنه حائرا للغاية، لا يدري كيف تفعل الموسيقى كل ذلك به، لم يشعر يوما أنه يملك الخيار في الانتماء إليها والتأثر بها أو تجاهلها. فقد وجد نفسه يسمع صوت قلبه واضحا عندما ينتمي لإيقاعها. يتذكر ذات يوم أنه قد توقف عن سماع الموسيقى أكثر من الشهر بقليل، وفي هذه الفترة ذهب إلى مكان يركن إليه عندما يريد العزلة، فسمع نصير شمة يقول بعوده اللامعقول مقطوعته الثانية، فشعر حينها أن نبض قلبه قد اضطرب، وصعدت الدماء لرأسه مسرعة، وعندما تبع مقطوعته الثانية بهلال الصبا والتي كانت قالب موسيقي جديد اقترحه على قوالب الموسيقى العربية، لم يتمالك نفسه وترك عينيه تفيض بما أُرِيد لها أن تفيض. كان يريد أن يعلو صوت العود أكثر وأكثر، كان يريد أن يتلاشى بين أوتار عوده، وهل هناك ما هو أكثر شفافية من الذوبان بين أوتار عود موسيقيّ احتُلّت بلده. وكأن العود قد حمل كل أسى أهل المكان الذي جاء منه.


عندما يهجره فعل القراءة ويقاطعه، عندما يهزم نضوبه الفكري قدرة قلمه على الكتابة، لا يجد سوى الموسيقى دربا وسبيلا. عندما تركته حبيبته، عندما عادت إليّه، عندما مرر أنامله على تفاصيل وجهها الناعس، عندما قبّل الثنِيّات على جانبي عينيها، عندما غلبتهما النشوة صعودا وهبوطا وكأنهما كيانا واحدا، شعر وكأنه أسير إيقاع خفي، إيقاع لا يفهمه بدقة ولكن يحبه، ولا يمكنه العزوف عنه، أو التوقف عن الحنين إليه.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق