السبت، 31 مايو 2014

مراد في 1919 .. هل تراجع بالعودة إلى الماضي

559




ليس غريباً ملاحظة أن الإنتاج الفكري للكاتب لا يسير دوماً في إتجاه تصاعدي من ناحية جودة العمل، أو من جهة أصالة الفكرة. ولكن غالبا ما يتخذ شكل المنحنى في صعوده وهبوطه. فتجد أعمال إستثنائية تارة، وأعمال عادية أو سيئة تارة أخرى. وباعتبار ما سبق أساساً فكرياً يساعد على النظر فيما كتبه أحمد مراد – مثلاً –  بشئ من الموضوعية؛ سيتضح أنه قد بدأ منحناه الأدبي بالصعود مع أول أعماله “فيرتيجو”، ووصل لذروة الصعود مع ثانيها “تراب الماس”، ثم بدأ بالهبوط مع ثالثها “الفيل الأزرق” ووصل إلى أدنى مستوى من الهبوط مع روايته الجديدة “1919″.
إنتظر الكثيرون هذه الرواية بشغف. وكان لحملة الدعاية التي قادتها دار الشروق دوراً كبيراً في هذا. حملة دعاية نافست حملات دعاية الأفلام السينمائية (ليس غريبا أن يجد القارئ كتابات مراد أقرب للسينما منها إلى الأدب)، بالإضافة إلى ذلك، وصول الفيل الأزرق للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية. كل هذه العوامل جعلت إقبال جمهور القراء – خاصة الشباب – على الرواية كبيراً وبشكل غير معتاد. وماهي إلا أيام قلائل مرت على صدور هذا العمل حتى ذاع خبر أن الطبعة الأولى قد قاربت على النفاذ. وكل هذا يجعلنا نتسائل من جديد: هل اسم الكاتب أو دار النشر أو الدعاية أشياء كافية لتجعلنا نظن أن رواية ما جيدة؟ بل هل رواج رواية ما يكفي لنقطع بأنها تستحق هذا الانتشار؟ ليس من السهل دوماً الإجابة على هذا السؤال المركب والمتشابك.
وبعيداً عن الصخب المصاحب لصدور الرواية وتحيزات بعض القراء المبالغ فيها سواء في التأييد أو الرفض. هناك أشياء يجب الحديث عنها في هذا العمل الذي حاول مراد من خلاله أن يتحرر من قالب اعتدنا أن نراه فيه. قالب ظهرت سماته في أعماله السابقة وتسبب في نجاحها. فهل نجح مراد في التحرر من قالبه هذه المرة؟ هل استطاع بالعودة إلى الماضي أن يفاجئنا ببعد آخر لفكره وقلمه لم نستطع أن نراه من قبل؟
افتقد مراد في 1919 لعنصر التشويق؛ والذي كان محوراً أساسياً من قبل، وسبباً مهماً في رواج أعماله بشكل ليس عاديا بالنسبة لكاتب عمره قصير نسبياً في الإنتاج الأدبي. غاب عنصر التشويق فشعر القارئ بترهل البناء الروائي، وظهر عدم التناسق في الربط بين مسارات الأحداث المؤثرة وتفاصيلها الصغيرة وما ترتب على ذلك من تسرب الملل إلي القارئ خاصة مع طول الرواية، وشعوره بضعف تماسك العمل. كما وضح أيضا قصور طريقة السرد وعجزها عن التعبير في أكثر من موقف؛ الشئ الذي كان متخفياً في حضور عنصر التشويق في الأعمال السابقة.
ويُعد وضوح التفاصيل الحسية للشخصيات الرئيسية والثانوية من الأشياء الجيدة في هذا العمل. ولكن لم يُتقِن مراد التعبير عن مشاعر الشخصيات وهواجسها بنفس الوضوح. هناك بعض الافتعال في طريقة انجذاب الشخصيات لبعضها البعض (ليس عاديا أن كل شخصية تحب شخصية أخرى من أول مرة تراها)؛ ومما زاد من الافتعال هو عدم ملائمة اللغة في بعض الأوقات للظرف الزمني الذي تدور فيه الأحداث. فظهرت اللغة في بعض الأحيان منفصلة عن واقع الشخصيات مما تسبب في ظهور بعض التشوهات في طريقة الحديث بين بعضها البعض.
أتقن الكاتب رسم الخلفية التاريخية للعمل وساعده على ذلك كونها فترة لا تحتاج إلى جهد بحثي كبير. لأنها من الفترات التي تم تأريخها بشكل جيد للغاية. وعلى الرغم من من وضوح الخلفية التاريخية للعمل إلا أن الكاتب افتقد التعبير بأصالة عن عمق التجربة الإنسانية لشخصيات روايته؛ والتي دوما ما تكون قادرة على جعل القارئ يعيش أحداث العمل الروائي التاريخي كأنه جزء منها. ويظل أفضل ما في الرواية هو تشابك مصائر الشخصيات وخاصة في النهاية التي أعطت شئ من الحيوية لهذا العمل الذي يتسم بفتور واضح.

الاثنين، 26 مايو 2014

إشكالية التشعبية بين العلم والأدب (2-2)

الاش 
 



دعونا اليوم في الجزء الثاني ننتقل لإشكاليات أخرى منها ما يكمن في أن العلم قد أصبح عبئاً مادياً فوق طاقة غالبية سكان الأرض، فلم يعد في وسع المرء أن يتحمّل تكلفة أن يرسل أولاده لجامعات بحثيّة ولم يعد في وسعه أيضاً أن يتحمّل تكلفة المضيّ قدماً بالاعتماد على ذاته في كتابة الأبحاث العلمية، خصوصاً في العلوم التطبيقية . فإن أردت التفوق علمياً أو البحث في مجال ما، فلابد أن تكون منتمياً بشكل أو بآخر إلى مؤسسة بحثية أو جامعة أو أي شئ من هذا القبيل، والتي يمكنها أن تساعدك مادياً ولوجيستياً لتتمكن من التقدّم في أبحاثك.
ولكن أي معايير تضعها هذه المراكز البحثية والجامعات لقبول طلبة العلم؟ ليس غريباً أن نسأل سؤالاً كهذا. دعونا فقط نتذكر رفض أساتذة أينشتاين في الجامعة حصوله على منحة لتحضير درجة الدكتوراة، بل ظلّ تعنّت بعض أساتذته اتجاهه حتى بعد أن توصّل إلى نظرية النسبية الخاصة، وقد ظلّوا رافضين إعطاءه درجة الدكتوراة بعدما تجلّت عبقريته في هذه النظرية بدون أدنى شك. ليس غريباً إذن أن نتشكك في أن مؤسسية العلم قد تسببت في إصابته بالجمود وجعلته يتحكّم في المجالات التي يريد القائمين على هذه المؤسسات البحث فيها، بل نستطيع أن نقول أن هذه المؤسسات ومن يقوم عليها قد افتقدوا إلى المرونة الفكرية التي تساهم في احتضان المتميزين علمياً حتى وإن لم ينجحوا في اختبارات قبول عقيمة تساوي بين الجميع.
وبالرجوع لجذور التمويل المادي لهذه المؤسسات والتي تعتمد غالباً على الدول التي تنشأ فيها أو على رجال الأعمال الذين يحتاجون البحث العلمي من أجل تطوير منتجاتهم الإستهلاكية، سندرك أنه ليس من الصعب استنتاج أن طريق البحث العلمي في عالمنا اليوم يأخذ (غالباً) اتجاه تتحكم فيه سياسات الدول ومصالح رجال الأعمال. وليس هناك من ضررٍ على فكرة البحث العلمي (التي تعتمد على التحرّر الفكري والتأمّل) من أن تتبع أهواء الساسة أو التُجّار.
أما الأدب فقد شاء القدر أن يظل أسير التجربة الإنسانية، فمن الصعب أن تجد عملاً أدبياً قد كتبه أكثر من شخص (على عكس البحث العلمي الذي أصبح العمل فيه غالباً ضمن مجموعات بحثية)، فالأدب وحتى يومنا هذا لم يخضع (على الأقل كما خضع العلم) للمنهجية الأكاديمية، وكان لهذا صراحة سلبيات كثيرة، منها على سبيل المثال تزايد عدد المنشورات التي تدّعي أنها أدبية دون وضوح منهج ما في فرز الجيد من الخبيث، فالتجربة الإنسانية لا يمكن الحكم عليها إلا من وجهة نظر القارئ الفرد، وعلى الرغم من ظهور مصطلحات أكاديمية في الأدب، مثل البناء الروائي والحبكة وجودة اللغة وطريقة السرد وغيرها، إلا أننا ما زلنا نعتمد بشكل كبير على التذوّق الفنّي لدى القارئ لكي نطلق أحكاماً على المنتجات الأدبية.
لكن وعلى الجانب الآخر نجد أن عدم تقيّد الأدب بمنهجية علمية صارمة سمح للكثيرين من الكتّاب أن ينطلقوا معبّرين عن أنفسهم بوضوح وشجاعة (الكثير من الأدباء نجد أنهم قد درسوا أكاديمياً مجالات مختلفة ومتعدّدة). ومن الطبيعي أيضاً أن نجد في دول العالم المتأخّر إقتصادياً بروز الكتابة ونشاط الحركة الأدبية كمتنفّس للكثيرين (يظهر من بين هؤلاء الكثير من المبدعين في الكتابة الأدبية) ممن دُفِنت أحلامهم في مجالات دراستهم الأساسية لعدم قدرتهم على أن يمارسوها في ظل تأخّر بلادهم، أو لعدم تمكّنهم من السفر إلى الخارج لكي يطوّروا من أنفسهم فيها (على سبيل المثال نجد أن تعنّت الدول المتقدمة في قبول المتفوقين علمياً من الدول الأقلّ تقدّماً إقتصادياً يتسبّب في إحباط الكثير من الشباب، بالإضافة لبعض الموانع السياسية والعرقية التي تُظهِر أن العنصرية والتفرقة بين البشر ما زالت آفة لم يتخلص منها البشر حتى في أكثر المجتمعات تقدّماً مع تحفّظي مسبقاً على لفظة التقدم).
فالمؤسسيّة التي سيطرت على العلم أكسبته النظام الذي أدّى إلى سرعة التطوّر وسلبت منه الحرية في اختيار موضوعات البحث والمرونة في تقبّل الأفكار الغير تقليدية. والتحرّر من قيود النظام الصارم جعل الأدب قادراً على أن يحتفظ بالكثير من التحرّر الفكري والشجاعة في الطرح، وقد ساهم ذلك في إطلاق الكثير من الطاقات التي أبدعت أدبيا، ولكن ربما أضفت على الإنتاج الأدبي شيئاً من الفوضى وبروز ظاهرة النشر من أجل المكسب التي تتبعها الكثير من دور النشر في أيامنا هذه، بغضّ النظر عن المضمون الأدبي أو الهدف من وراء ما يُغرِقون به المكتبات.
ربما يحتاج العلم إلى أن يتحرّر قليلاً من مؤسسيته، وربما يحتاج الأدب لشئٍ من النظام الذي يساعد على ضبط إيقاع سوق النشر التي ظهر في الآونة الأخيرة أنه لم يعد يهمّ معظم ناشريها سوى المكسب، ربما كانت هذه هي طبيعة الحياة التي نحياها، فمهما اخترنا لها من نظام، تجدها قد تعطيك أشياء ولكنها في الوقت نفسه تسلب منك أشياء أخرى.

الاثنين، 19 مايو 2014

السجن

2333 

كانت تسير ذهابا وإيابا .. متجولة بين الشارعين الرئيسين في المدينة .. يدها ممدودة أمامها باسطة كفها .. تطلب المساعدة ممن تراهم يستطيعون مساعدتها  .. طفلة . لا تتعدى الحادية عشر .. ترتدي سروالاً رجالياً وخمارا أبيض متسخا .. تبدو عليها كل ملامح الطفولة .. ولكن أي طفولة تعيشها طفلة مثلها .. تطلب .. ثم تطلب .. يوقفها رجل ليسألها عن حالها .. يستفسر منها .. يزم شفتيه ثم يمضي .. يتكرر الموقف معها ثلاث أو أربع مرات يوميا بين سيدة أو شاب أو كهل .. الكل يستفسر ويعطيها في يدها ما يعطي ويذهب.
اعتادت على تلك السخافات .. ذلك الادعاء بالشعور أنهم يشاطرونها مآساتها .. لم تعد تلقي لهم بالاً .. تحكي لهم كشريط مسجل وتمضي كما يمضون بعدما أخذت منهم ما أرادوا أن يعطوه لها.
هل يشعر أحدهم بذلك البرد القارس الذي يوخز عظامها .. تلك اللفحات المتتالية من هواء الشتاء المؤلم .. هذا السير لساعات .. لا تستطيع أن تقنع نفسها بأنهم يشعرون بأي من ذلك في معاطفهم الغالية ..
وأما الأكثر ألما من كل هذا .. الأكثر ألما من طلب المساعدة “التسول” .. الأكثر ألما من البرد .. هي أمها .. كانت امرأة فظة .. تصرخ فيها كلما رأتها لا تقوم بوظيفتها التي فرضتها عليها .. لا تتورع في صفعها وجعلها تبكي .. بدون ذرة من المشاعر ..
يذكر ذات مرة أنه شاهد أمها تضربها .. مرة .. اثنتين .. تتوالى الصفعات والبنت لا تتحرك .. فقط تبكي .. كان البرد قارسا بشكل لا يتحمله شاب مفتول العضلات .. وفي غمرة تلك المعاناة التي كانت تحدث لدقيقتين أو ثلاث بدت وكأنها لن تتوقف؛ ظهر شاب .. شاب عادي .. كان في طريقه إلى بيته فوقف للحظة يتأمل المشهد .. خطى خطوتين باتجاههم ثم تراجع ومضى في طريقه. ثم شعرتُ بأنه قد أنب نفسه وعاد مرة أخرى إليهما .. كل ما فعله أنه وضع يديه بين صفعات الأم ووجه الابنة .. قال لها بهدوء وبنظرة حادة : لا تضربيها ..
صُعِقت المرأة .. لم تقل أي كلمة .. سأل  الطفلة: من هي ؟
فقالت : والدتي ..
أدار وجهه للمرأة وهو ممتلئ بالدهشة والألم والحزن قائلا : لماذا تضربينها ؟ ماذا فعلت كي تستحق كل هذا ..
ردت عليه بصوت ضعيف: لا تنصت إلى كلامي ودائما ما ترد عليّ بصوت عالٍ  ..
زفر زفرة شديدة ماسحا على وجهه وكأنه يعيد إليه الدم الذي هرب من البرد ثم قال بتؤدة منهياً كلامه : إن كنتِ تضربينها من أجل مال فكوني صريحة وأنا سأعطيكِ المال الذي لم تجلبه هي اليوم .. وإن كنتِ تضربينها من أجل ذلك الهراء الذي قلتيه فأنا أستطيع أن أضعك في الحبس فلا تجعليني أقدم على فعلة كهذه .. فاحذريني ولا تمسيها بسوء مرة أخرى ..
التفت مرة أخرى إلى الفتاة هامسا في أذنها .. إن مستك بسوء فستجدينني في نهاية الشارع كل يوم، تعالي فقط وأخبريني .. هزت الفتاة رأسها بصمت ومسح عنها دموعها وتركها مع أمها وذهب ..
هذا الشاب غريب بالفعل .. يفعل أشياء أنا لا أستطيع فعلها ولا أجرؤ عليها .. يقترب من أناس نشعر بالخوف منهم أو بالخوف من أن يسببوا لنا أية مشاكل بل نشعر بالقلق من فكرة أن ينتسب وجودهم لنا إن رآنا أحد معهم ..
دعوني أذكر موقف آخر فعله ذلك الشاب الذي لا يتجاوز الخامسة والعشرين ..
كان يقف على ناصية الشارع يتأمل أحوال المارة .. ثم وجد شابة قصيرة تلتحف بخمار حاملة بين يديها طفلا رضيعا .. اقترب منها .. نظر إليها فلاحظت نظراته .. تعجبت .. مضت في طريقها فلاحقها .. ثم سبقها ووقف مستندا إلى سيارة قديمة .. راقبها وهي تطلب المساعدة من أي شخص فبدت له عديمة الخبرة في التسول .. لفت ذلك انتباهه أكثر فأكثر .. انتظرها .. اقتربت منه تطلب المساعدة فتفاجأت بأنه هو الذي كان يراقبها منذ قليل .. بادرته مهاجمة : لماذا تتبعني ..
فقال : أنا .. ! لا أتبعك .. فقط أتابع ما تفعلين ..
صمتت .. ثم قالت في يأس : هل لك أن تساعدني بشئ ..
قال هذا السهل أما الصعب هو أن تقولي لي بصدق لماذا تطلبين المساعدة ..
عدلت من وضع طفلها الرضيع فسألها ملاحظا : ولدك أم أخوك .. فردت : ابني يبلغ خمسة أشهر .. ولدي بنت في المنزل مع أختي .. تبلغ سنة ونصف ..
وأين زوجك ؟
في السجن ..
لماذا ؟
قضية مخدرات لفقها له أبوه لأنه لم يرد أن يشركه في الميراث مع باقي إخوته . أنا زوجي يعمل بأجر يومي في تجهيز الشقق الجديدة ودهانها .. كل يوم أوقظه ليذهب إلى العمل .. أجرة يومه ستون جنيه .. لم أكن أفكر في أن أنزل إلى الشارع وأطلب المساعدة لو كان موجودا .. ما كان ليرضى حتى وإن تهالكنا جوعا.. ولكن زوج أختي هو من أجبرني على ذلك .. لا ملجأ لي .. ولا شئ بيدي لأفعله غير ذلك .. أتعلم يا أستاذ .. لففت ابنتي بغطائين كي أنزل في ذلك البرد .. قل لي ماذا أفعل ..
- كم عمرك
- خمسة وعشرون
- يظهر الألم على وجهه .. وزوجك كم سنة حُكِم عليه
- ست سنوات
ينحبس النفس في جوفه .. يصمت .. معنى هذا أنه سيخرج من سجنه ليرى ابنته الأكبر لأول مرة وهي في الصف الأول أو الثاني الابتدائي
فأكملت له كلامه : وابنته التي على كتفي لم يرها عندما قبضوا عليه .. كنت ما أزال  في شهور الحمل ..
أمسكها من ذراعها برفق .. فتح يدها .. وضع فيها ما وضع وقال : لا تنزلي مرة أخرى .. وأول جمعة من كل شهر انتظريني هنا في نفس الوقت ..
حاولت أن تتكلم ولكنه منعها وأكمل : ولكن كوني على علم .. إن رأيتك مرة أخرى تفتحي ( تفتحين ) يديك لتطلبي من أحد فلا تنتظريني مرة أخرى.. أي شئ ستحتاجين إليه ستطلبينه مني أنا فقط وإن لم أؤدي ما عليّ اتجاهك فلك الحق حينها أن تفعلي ما تريدين ..
ظهرت في عينيها دمعتان محبوستان  وقالت له : لم يلزمك أحد بواجب تجاهي ..
فأشار بإصبعه على فمه دليلا على أمره إياها بالصمت .. ثم ابتسم ليداري ألمه وقال : الآن عودي لبيتك ولابنتك الأخرى .. دون أي كلام .. فامتثلت لما قال ..
أنا لا أروي لكم تلك الحكايا لشئ سوى لتساعدوني أن أفهم .. من الممكن أن تكون تلك القصص مقبولة لو كانت قد حدثت من رجل طاعن في السن أو ناضج أو متزوج ومستقر .. أما من شاب .. لم يعرف قط ماذا يخبئ له القدر .. وبتلك النظرات الهادئة المتألمة .. وبذلك الصوت الدافئ الذي يتخذ مساره مصمما أن يصل لمحدثه بوضوح في برودة الشتاء القارسة .. في أي شئ كان يفكر ..لا أخفي عليكم دهشتي .. ولا أستطيع أن أفهم ما يفعله .

إشكالية التشعبية بين العلم والأدب (1-2)

558554_3901158266689_1296619636_n 
 
إن تاريخ الإبداع الإنساني أهم من تاريخ الإنسان ذاته، فالإنسان قد يعيش حتى المئة  ثم يموت، بينما تعيش أعماله الإبداعية قروناً في وجدان الناس.
وإن تحدثنا بالأخصّ عن العلم والأدب كوجهين من أوجه الإبداع الإنساني، فسنجد أن الأديب والعالم بينهما الكثير من الصفات المشتركة التي يحتاج إليها المبدع بشكل أساسي، فكلاهما يمتلك الخيال الخصب والحدس والقدرة على الابتكار، هذه الصفات الثلاثة هي الأهم بالنسبة لهما، فهي التي تساعدهما على استكمال الحلقات الناقصة في سلسلة الحقائق التي تقع تحت الملاحظة (مهما اختلفت دوافع الملاحظة لديهما)، وهي التي تساعد أيضاً في العملية الإبداعية التي تُسهِم بشكل مباشر في الفرضيات العلمية التي يضعها العالِم، كما أنها تساعد الأديب على فهم طبائع الناس ودوافعهم؛ مما يُحفِّز قلمه على الكتابة عنهم بشكل أكثر مصداقية وقوة، وليس هناك أفضل من فيودور ديستويفسكي كمثال على مدى عمق الفهم الذي قد يصل إليه الأديب في تأمّلاته للطبائع الإنسانية.

وفي لحظة ما من تاريخنا، انقسم طريق العلم والأدب إلى طريقين أخذا في التباعد عن بعضهما البعض، وقد حدث هذا الانقسام بعدما كان من الطبيعي أن تجد نفس الشخص له إسهامات في الرياضيات والفلك والطب بالإضافة لكونه شاعراً وخطيباً مفوّهاً. حدث هذا الافتراق كنتيجة حتمية (مع الأسف) لازدهار حركة الاستنارة في أوروبا، التي ساهمت في وضع تعريف جديد للعلم. وقد أدى ترسخ هذا التعريف الجديد إلى تجاهل كل ما لا يستطيع الإنسان إخضاعه تحت الملاحظة و التجريب واستبعاده خارج إطار العلم بمعناه الأشمل. وقد أدّى هذا بالضرورة لانعزال العلوم الطبيعية (بما أنها خاضعة للتجربة والمشاهدة) عن العلوم الإنسانية (التي لم ينطبق عليها التعريف الجديد للعلم).

أدى هذا الانعزال والتقسيم إلى تطوّرات وطفرات كبيرة في العلوم الطبيعية في المئة سنة الأخيرة؛ مما جعل من المحتم تقسيمها من جديد إلى مجموعة من العلوم الجزئية بشكل أكثر تفصيلاً، وقد ترسّخت في ذهن العلماء فكرة مفادها: كلما كان التقسيم أكثر انتظاماً ووضوحاً كلما كان البحث أيسر وأدقّ بالنسبة لرجال العلم، وكلما كان التطور أسرع. ولكن من ناحية أخرى تسبّبت هذه التقسيمات الصارمة للعلوم الطبيعية في زيادة الصعوبة التي يواجهها الشخص العادي في الاطّلاع على كل ما هو جديد في العلم، جعلت هذه التقسيمات أمر العلم مقصوراً على عدد قليلٍ للغاية من الطلبة الأكاديميين وأساتذة التدريس (الذي كان يسعى بعضهم في درب العلم فقط من أجل الوظيفة المرموقة بغضّ النظر عن مدى إيمانه برسالة العلم). فامتلأت المراجع بمئات الرموز الرياضية التي جعلت من الصعب أن يدركها الشخص العادي إن لم يكن قد ألمّ بها من قبل أو درسها بشكل أو بآخر. وهذا النوع من الدراسة أو الإلمام ليس يسيراً أو متاحاً لغالبيتنا بالتأكيد.

والسؤال الذي يطرح نفسه باستمرار هو: من الذي يستمر في تقسيم العلوم الطبيعية بهذه الطريقة؟! والإجابة الواضحة لهذا السؤال هي أن الأمر برمّته أصبح أسيراً لفكرة المؤسّسية. خصوصاً المؤسسات الأكاديمية كالجامعات والمراكز البحثية الكبرى. وبالتحديد مجموعة الأشخاص الّذين يمثّلون صفوة العلماء في هذه المراكز. هؤلاء هم من يشكّلون خريطة تقسيم العلوم في عالمنا اليوم. ولكننا ما إن نصل إلى هذه النقطة حتى نعود لنتساءل من جديد: هل معرفتنا أن مصير العلوم يقع في يد هؤلاء العلماء من الممكن أن يكون سبباً كافياً ليجعلنا نطمئن لمصير العلم وعلاقته بعالمنا الذي نحياه الآن أو حتى علاقته بمستقبلنا الذي نحن مقبلونعليه؟ لا أظن أن الإجابة على هذا السؤال سهلة.

هناك بالتأكيد بعض الإشكاليات الأخرى والتي هي في غاية الأهمية. وسوف نتحدث عنها باستفاضة في الجزء الثاني من المقال، السبت المقبل.
 

الأحد، 11 مايو 2014

لماذا أحب الأدب العالمي (2-2)




كانت البداية حين تركت العراك والجدال بشأن جودة الأدب العربي وطلبت منهم أن يقترحوا عليّ شيئا مكتوباً بيدٍ عربية، يكون قادراً على أن يجعلني أغيّر رؤيتي للأدب العربي من جديد. فاقترح عليّ أحداهم أن أقرأ رواية ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور. لم أكن أعرفها أو أعرف روايتها، فصدمه جهلي بها وأعطاني الكتاب ووعدته بقراءته. ظل الكتاب أمامي ثلاثة أيام ولم أمسه. كنت حينها قد بدأت في قراءة مجموعة متتالية من روايات الأدب الإنجليزي من ترجمة العبقري مختار السويفي، هذا الرجل الذي أدين له بالفضل في التعرف على الكثير من الروايات الإنجليزية أو الأمريكية والتي كانت من ترجمته الرائعة.

ولأن الحظ أو الصدفة أو يد القدر التي لا نعرف إلى أي وجهة تسوقنا قد جعلتني آخذ الرواية معي إلى الجامعة على أمل ضعيف أن أبدأ فيها بين فواصل المحاضرات. وانغماساً في ترك نفسي ليد القدر فيما يخص هذه الرواية، فقد وجدت أنني مصاب ببعض الإرهاق الذهني وأكتفيت بحضور المحاضرات حتى العصر وتبقى أمامي ساعتين على الأقل قبل أن تغرب الشمس وهو الوقت الذي لا أشعر بمتعة القراءة كما شعر بها أثناءه.

جلست سانداً ظهري إلى شجرة صفصاف كبيرة تنفذ آشعة الشمس من أغصانها العتيقة والتي تكاد تقترب من الأرض. نفذت لأنفي رائحة العشب والتقطت عيني حماسة الربيع في إبريل. فشعرت مرة أخرى وكأن وجودي في هذا المكان بهذه الطريقة في هذا الوقت من تدبير من لا نعلم كيف يدبر، ثم سرعان ما صارعني في تلك اللحظة هاجس مضاد بأن كل هذا لا يتعدى كونه صدفة. أخرجت نفسي من صراعات هواجسي بالتأمل في غلاف الرواية الذي كان يحمل صورة امرأة بشكل فلكلوري غريب. لم أفهمه ودفعني هذا أكثر للبدء فيها. وما إن بدأت في قراءتها حتى وجدت نفسي لم أشعر بالوقت وفاجأتني الشمس وهيتغرب وها أنا ذا لم أغادر مكاني منذ أن جلست أتأمل آشعة الشمس تحاول النفاذ من بين أغصان الصفصاف.

لن أتحدث عن الرواية، فهي من النوع الذي لا تستطيع أن تتحدث عنه بل لابد أن تقرأه. سأقول فقط أنني لم أذهب إلى الجامعة لمدة يومين حتى انتهيت منها، ولم أذهب ليومين آخرين بعدما انهيتها. كم مرة بكيت وأنا أقرأها؟ كم مرة بكيت بعد أن قرأتها ؟ كم مرة هاجمتني في بداية نومي؟  كم مرة شعرت بالأمل مع شخصيات الرواية وكم مرة انطفأ أملي؟ كل ما أستطيع أن أقوله أنني لم أشعر بشئ من قبل كالذي شعرته معها. عدت إلى الجامعة وأعطيت صديقي روايته وعندما سألني عن رأيي، رددت عليه بجملة واحدة فقط: أريد شيئا آخر كهذا. ابتسم بهدوء وقال لي: للأسف ليس من السهل أن يكتب أحدهم شئ كهذا.

لم يتوقف ذهني عن التفكير بعد هذه التجربة. بدا أن كل فكرة كادت أن تُرسِخ قواعدها في عقلي (وما تشمله هذه القواعد من تصنيفات لجودة الأدب طبقا لبلاد بعينها أو ثقافات معينة) وكأنها قد بدأت في التزعزع. ومنذ هذه اللحظة بدأ الشك والارتياب يغلب على طريقة تفكيري أكثر من البحث عن اليقين والراحة الذهنية. فما قرأته في ثلاثية غرناطة لم يكن مجرد سرد قصصي أو حبكة روائية متشبعة بالتاريخ. هذه الرواية دراسة تاريخية/ إجتماعية/ نفسية لجزء من الألم الذي عشناه في فترة من تاريخنا لم نكن نعلم عنها سوى القليل للغاية. هذه الرواية إن أردنا أن نفككها لمجموعة من الدراسات سنحتاج لأضعاف عدد الورق الذي أُنجِزت فيه. فهمت في اللحظة التي قرأت فيها ثلاثية غرناطة كيف يمكن للأدب أن يكون معبراً عن التجربة الإنسانية بصدق حقيقي دون أي مبالغات إنفعالية أو إثارة لا مبرر لها.

مرت أيام قليلة قبل أن أقابل نفسي صديقي هذا ولكن في هذه المرة تعرفت عن طريقه بصديقة أخرى مهتمة بالقراءة ومتحيزة بشدة للأدب العربي. فحدثها أمامي عن حبي لثلاثية غرناطة. فردت بشئ من تقليل الأهمية وبنظرة ناعسة: كيف يمكنه ألا يحبها. فسألها إن كان هناك شئ مشابه لها ، فأجابته بالتأكيد لا فهي ثلاثية غرناطة ولا يمكن أن يكون هناك شئ قريب منها ولكن هناك أعمال أخرى لكُتّاب آخرين كعزازيل على سبيل المثال. وتكرر الموقف ثانية فبدت على وجهي كل علامات الجهل بالكلمة التي نطقتها فتعجبت هي الأخرى وسألتني بنبرة لوم مندفع: كيف لا تعرفها؟ فإن كنت لم تسمع بها فبالتأكيد لم تسمع عن يوسف زيدان. فسكت لأنني لم أُرِد أن أدخل في جدال لن أستفيد منه شئ. تدخل هنا صديقنا المشترك وأوضح لها أنني لم أكن مهتماً من قبل بالأدب العربي ومعظم قراءاتي من الأدب المترجم. فنظرت لي نظرة بها شئ من الازدراء وقالت في نفور: التعلق بالغرب ! متى سنتخلص من هذه الآفة.

أردت هنا أن أوضح الأمر، أردت أن أوضح أن الأدب العالمي بالنسبة لي ليس أدب أوروبا، ولكنه خلاصة التجربة الإنسانية سواء كانت من الأدبيات الأوروبية الكلاسيكية، أدب أمريكا اللاتينية، الأدب الأمريكي، الأدب الروسي أو الأدب الياباني والصيني. أردت أن أقول لها أن مختار السويفي وصالح علماني وسامي الدروبي قد قاموا بمهام لا تقل عظمة وأهمية عن أهمية من أبدع في الكتابة بالعربية. أردت أن أوضح لها أنني تحررت من قيود المكان أو الزمان بحبي للأدب العالمي وأن الموضوع ليس تعلقاً بالأدب الغربي كما قالت. أردت أن أقول لها أنني أسعى لفهم الإنسان وتجربته ومشاعره مهما اختلفت البلاد أو اللغات التي عبّر بها الإنسان عن هذه التجربة وهذه المشاعر. أردت أن أقول كل هذا ولكنني منعت نفسي بصعوبة تجنباً لأي زيادة في حدة الجدال خصوصا مع شخص مندفع في حماسته مثلها. غيرت الموضوع وطلبت منها أن تُعيرني عزازيل إن كانت تمتلكها فوافقت بشرط ألا أثني الصفحات. فقلت لها بابتسامة مفتعلة : لم أثن يوما صفحة كتاب قرأته.

لا يجد القارئ صعوبة في أن يستشف أنه قد حدث معي وأنا أقرأ عزازيل ما حدث وأنا مع ثلاثية غرناطة. لن أتكلم عن المعاناة النفسية والصمت لمدة يوم كامل بعد قراءة الرق الذي يتحدث فيه يوسف زيدان عن قتل هيباتيا. لن أتحدث عن أي شئ. لم أجد في نفسي القدرة على قراءة شئ لمدة تتخطى الشهر بعد أن قرأت هاتين الروايتين. أعطيت نفسي قسطاً من الراحة بعدهما وتفرغت كلياً لمحاولة فهم سبب تعلقي بهما إلى هذه الدرجة التي لم أختبرها من قبل. كنت أجلس وحيدا، أستمع إلى الموسيقى، أقرأ دواوين درويش ونزار وجويدة التي كنت قد قرأتها من قبل مرات. أستمع لشوبان، شوبارت، فيفالدي، خواكين رودريجو وغيرهم. وفي بداية يوم من أيام أجازتي الأسبوعية بدأت قائمة تشغيل الموسيقى بالمقطوعة الثانية من Concierto de aranjuez لخواكين رودريجو. وما أن انتصفت المقطوعة حتى وجدت روحي كذرة غبار تحركها أقل نسمة هواء، تروح بها وتجئ.وما إن تملكني هذا الشعور حتى وجدت قلبي يحدثني قائلا: إنك أردت الهروب من كل قيد كذرة غبار.

الهروب! إنني بقراءتي للأدبيات المترجمة أهرب من المكان والزمان. وعندما وجدت الهروب في أعمال مكتوبة بالعربية أحببتها. الهروب! يالها من فكرة. الهروب من واقع لزج. واقع يمتلأ بالأسى وانعدام الوعي. الهروب في التجارب الإنسانية الأخرى، في مكان وزمان آخر. ربما لهذا نقرأ أصلا الروايات! لمحاولة الغوص في تجارب أخرى غير التجارب التي نمر بها في حياتنا. لم أحب نجيب محفوظ لأنه كان يمتلئ بالواقعية التي أهرب منها. إن المشكلة بالنسبة لي ليست مشكلة مع ذاتي بقدر ما هي مع المكان والزمان. مشكلتي كانت مع واقع يقتحم حياتنا بكل بفجاجة ليشوه ما بقى في نفوسنا من بعض جمال. ربما لهذا أحببت ثلاثية غرناطة وعزازيل. ربما لأنهما جعلاني أهرب! أهرب إلى حياة غير التي أحياها حتى ولو كانت الحياة التي أهرب إليها ممتلئة أيضا بالمعاناة حتى ولو كان هروبي فيهما مجرد هروب خيالي، ولو كان مجرد صفحات على ورق.
فهل العقاد كان مصيبا عندما قال : إنني لا أقرأ لكي أكتب. أنني أقرأ لأن القراءة تجعلني أعيش أكثر من حياة، لأن حياة واحدة لا تكفيني.

الثلاثاء، 6 مايو 2014

لماذا أحب الأدب العالمي (1-2)

eeeee 



يصعب عليّ حقاً أن أجد إجابة دقيقة لهذا السؤال الذي طالما حيرني. فقد قُدِر لي أن أقرأ لتشارلز ديكنز، فيكتور هوجو، دانييل ديفو، أنتوني هوب وغيرهم قبل أن أقرأ لطه حسين، يوسف إدريس، إحسان عبدالقدوس، نجيب محفوظ  وآخرين غيرهم. أحببت روايات الأدب العالمي، قرأتها مترجمة مختصرة (غالباً) من إصدارات مكتبة الأسرة. ثم شاء القدر مرة أخرى أن أقرأ ما قد قرأته من قبل ولكن كاملاً دون اختصار من إصدارات دور نشر مختلفة.


لا أدري كيف بدأ الأمر! ربما عندما رأيت زميلي في المدرسة الابتدائية يمسك بكتاب صغير مكتوب عليه “ترنيمة عيد الميلاد لـ تشارلز ديكنز” ظللت أراقبه خلسة وهو يحاول أن يقرأ فيه بحذر أثناء حصة مدرسية مملة. ربما بدأت الحكاية عندما لفت نظري وأثار فضولي اسم الكاتب والذي يبدو مختلفاً وغريباً عن أسمائنا العربية المعتادة، ربما لأن كل شئ غريب وغامض كان يثير فضولي. كانت عادتي أن أظل أُنقِب عن معنى كل اسم لا أعرفه وكل مصطلح أسمعه ولا يفهمه عقلي. سألته عن الكتيب بعد الحصة وطلبت أن أستعيره لأقرأه بعدما ينتهي منه فأخبرني بأن لديه الكثير من تلك الكتيبات وسوف يجلب لي واحداً منهم غداً على شرط أن أنتهي من قراءته قبل نهاية الأسبوع، فوافقت فرحاً، وحصلت لأول مرة في حياتي على كتاب ليس له علاقة بالمدرسة. فكان أول ما أعارني رواية صغيرة من إصدارات مكتبة الأسرة أيضا بعنوان “روبنسون كروزو لـ دانييل ديفو”. وخرجت من هذه التجربة التي بها الكثير من القراءة السرية والمخاطرة وليس في مقدوري سوى أن أقع في حب الأدب العالمي. فكنت كمن شاهد برج إيفل قبل أن يرى برج القاهرة. ويجب هنا أن أعترف بأنني لم أتوقف عن قراءة الأدب العالمي المترجم من حينها ولا أظن أنني قادر على التوقف عن قراءته.


ثم جاء الاختبار الحقيقي لهذا الحب عندما وصلت لمرحلة الثانوية العامة، وكان حتمياً عليّ أن أُظهِر كل الاهتمام بالدراسة ولا شئ آخر غير الدراسة (فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة). خصوصا أن والدتي كانت لا تتحمل أن ترى كتاب في يدي سوى كتب الدراسة وفقط. وكانت كلما رأت كتاباً معي ليس له علاقة بالدراسة تنفجر المشاكل والصراعات، وعبثاً حاولت أن أحاول توصيل وجهة نظري. ولكن هيهات، فأنا ليس لدي وجهة نظر. كانت تقول دائما، أنت طالب كل ما عليك فعله هو أن تتشرب كل ما في كتب دراستك وفقط. حتى عندما كانت تأتي أجازة نهاية العام كنت أرى الريبة وعدم الرضا في عينيها كلما رأتني أقرأ أي كتاب لا ينتمى لفئة كتب المدرسة. فاستمرت عادة القراءة السرية معي، فكنت أضع الروايات صغيرة الحجم بين كتب الفيزياء والرياضيات الضخمة وأما الكتب الكبيرة فكنت أدفنها بين ملابسي المتراصة فوق بعضها البعض بدولاب الملابس الخاص بي. كانت قراءة الروايات المترجمة نوع من المكافأة التي أعطيها لنفسي على قدر إنجازي في الدراسة وحاولت بتلك الطريقة أن أوازن بين شغفي ومسئوليتي. ولحسن حظي كانت مرتفعات ويذرينج لإميلي برونتي، جين آير لأختها شارلوت برونتي، البؤساء فيكتور هوجو، قصة مدينتين لتشارلز ديكنز و ثورة على السفينة بونتي لويليام بلاي وغيرهم مما لا يستطيع ذهني تذكره الآن، هم أعظم مكافأة لإنجزاتي الصغيرة في الدراسة بهذه المرحلة.


عندما بدأت أولى سنواتي الجامعية وكنتيجة طبيعية لاتساع دائرة من هم حولي، تعرفت على بعض أصدقاء القراءة في الجامعة. كانوا في بداية الأمر سعداء كوني قرأت الكثير من أفضل روايات الأدب العالمي ولكن رويداً رويداً بدأوا في لومي لعدم إهتمامي بالأدب العربي وخصوصا الأدب المصري بما فيه من غزارة إنتاجية واضحة (في وجهة نظرهم). فأجبرت نفسي على البدأ في قراءة بعض الروايات المصرية وكنت أميل في بداية إختياراتي إلى الأعمال الأكثر شهرة. وهنا يجب أن أوضح شئ مهما للغاية، وهو أنني في مقالي هذا لا أدعو القارئ لأن يسلك درباً معينا ً في القراءة، ولكن فقط أحاول أن أكتب عما مررت به في تجربتي الشخصية مع القراءة كي أصل ولو لجزء يسير من الإجابة عن التساؤل الذي طرحته كعنوان للمقال.


فبدأت بقراءة بعض من أعمال نجيب محفوظ ، طه حسين، الرافعي، المنفلوطي، يوسف السباعي ولكنني شعرت بصدمة حقيقية. صدمة لأنني لم أستطع إستساغة معظم هذه الكتابات الأدبية! وأكثر ما حيرني هو نفوري من نجيب محفوظ! هذا الرجل الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، أجد نفسي لا أستطيع أن أندمج مع أعماله وغالبا ما ينتابني الملل في منتصف رواياته! لابد أن الخطأ بي! حاولت أن أفكر في هذه الإشكالية وأراها من أكثر وجه ولكنني فشلت في فهم ما شعرت به. ولما وجدت نفسي لم أعد قادراً على المضي قدما في محاولة إستكشاف مصدر الخطأ، توقفت عن قراءة الأدب العربي وعدت لقراءة الأدب العالمي المترجم من جديد. عدت بحماس ورغبة قوية. أنقب عن كل عمل مترجم لأديب غير عربي.


كانت الترجمة بالنسبة لي أساساً قوياً أستطيع أن أبني عليه حبي للأدب العالمي. فكنت أظن حينها أن العمل لابد أن يكون فائق الروعة كي يحظى بذلك التقدير الكبير المتمثل في ترجمته للغات أخرى. ولكنني بعد فترة من قراءة الأعمال المترجمة وجدت تصوري هذا أقرب للتصور الكلاسيكي المختلف عن التصور العصري والقائم على ترجمة الأعمال البوليسية وقصص الإثارة دون شرط الجودة الفائقة وبمرور الوقت أصبحت أميز بين ما هو مترجم لقيمته الأدبية وما هو مترجم لأسباب تجارية. ولكنني داومت على عادتي، اقرأ كل ما تقع عليه يدي من أعمال مترجمة وأتجاهل هذه المرة بشكل متعمد كل ما هو مكتوب بيد عربي. وكان لابد في تلك اللحظة من حدث يكسر هذه الحلقة المغلقة التي عشت فيها. وقد وقع بالفعل هذا الحدث، لم يكن متوقعا بالنسبة لي أن تتغير وجهة نظري في الأدب العربي بهذا الشكل الكبير من النظرة السلبية البحتة إلى التفكير من جديد في موضوع الأدب برمته. وربما كان هذا الحدث هو بداية الخيط لفهمي سبب نفوري الحقيقي من الأدب العربي في تجربتي القصيرة معه.

ولكنني سأكمل الحديث عن هذا في المقال القادم.