يصعب
عليّ حقاً أن أجد إجابة دقيقة لهذا السؤال الذي طالما حيرني. فقد قُدِر لي
أن أقرأ لتشارلز ديكنز، فيكتور هوجو، دانييل ديفو، أنتوني هوب وغيرهم قبل
أن أقرأ لطه حسين، يوسف إدريس، إحسان عبدالقدوس، نجيب محفوظ وآخرين غيرهم.
أحببت روايات الأدب العالمي، قرأتها مترجمة مختصرة (غالباً) من إصدارات
مكتبة الأسرة. ثم شاء القدر مرة أخرى أن أقرأ ما قد قرأته من قبل ولكن
كاملاً دون اختصار من إصدارات دور نشر مختلفة.
لا أدري كيف بدأ الأمر! ربما عندما رأيت زميلي في المدرسة الابتدائية يمسك بكتاب صغير مكتوب عليه “ترنيمة عيد الميلاد لـ تشارلز ديكنز” ظللت أراقبه خلسة وهو يحاول أن يقرأ فيه بحذر أثناء حصة مدرسية مملة. ربما بدأت الحكاية عندما لفت نظري وأثار فضولي اسم الكاتب والذي يبدو مختلفاً وغريباً عن أسمائنا العربية المعتادة، ربما لأن كل شئ غريب وغامض كان يثير فضولي. كانت عادتي أن أظل أُنقِب عن معنى كل اسم لا أعرفه وكل مصطلح أسمعه ولا يفهمه عقلي. سألته عن الكتيب بعد الحصة وطلبت أن أستعيره لأقرأه بعدما ينتهي منه فأخبرني بأن لديه الكثير من تلك الكتيبات وسوف يجلب لي واحداً منهم غداً على شرط أن أنتهي من قراءته قبل نهاية الأسبوع، فوافقت فرحاً، وحصلت لأول مرة في حياتي على كتاب ليس له علاقة بالمدرسة. فكان أول ما أعارني رواية صغيرة من إصدارات مكتبة الأسرة أيضا بعنوان “روبنسون كروزو لـ دانييل ديفو”. وخرجت من هذه التجربة التي بها الكثير من القراءة السرية والمخاطرة وليس في مقدوري سوى أن أقع في حب الأدب العالمي. فكنت كمن شاهد برج إيفل قبل أن يرى برج القاهرة. ويجب هنا أن أعترف بأنني لم أتوقف عن قراءة الأدب العالمي المترجم من حينها ولا أظن أنني قادر على التوقف عن قراءته.
ثم جاء الاختبار الحقيقي لهذا الحب عندما وصلت لمرحلة الثانوية العامة، وكان حتمياً عليّ أن أُظهِر كل الاهتمام بالدراسة ولا شئ آخر غير الدراسة (فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة). خصوصا أن والدتي كانت لا تتحمل أن ترى كتاب في يدي سوى كتب الدراسة وفقط. وكانت كلما رأت كتاباً معي ليس له علاقة بالدراسة تنفجر المشاكل والصراعات، وعبثاً حاولت أن أحاول توصيل وجهة نظري. ولكن هيهات، فأنا ليس لدي وجهة نظر. كانت تقول دائما، أنت طالب كل ما عليك فعله هو أن تتشرب كل ما في كتب دراستك وفقط. حتى عندما كانت تأتي أجازة نهاية العام كنت أرى الريبة وعدم الرضا في عينيها كلما رأتني أقرأ أي كتاب لا ينتمى لفئة كتب المدرسة. فاستمرت عادة القراءة السرية معي، فكنت أضع الروايات صغيرة الحجم بين كتب الفيزياء والرياضيات الضخمة وأما الكتب الكبيرة فكنت أدفنها بين ملابسي المتراصة فوق بعضها البعض بدولاب الملابس الخاص بي. كانت قراءة الروايات المترجمة نوع من المكافأة التي أعطيها لنفسي على قدر إنجازي في الدراسة وحاولت بتلك الطريقة أن أوازن بين شغفي ومسئوليتي. ولحسن حظي كانت مرتفعات ويذرينج لإميلي برونتي، جين آير لأختها شارلوت برونتي، البؤساء فيكتور هوجو، قصة مدينتين لتشارلز ديكنز و ثورة على السفينة بونتي لويليام بلاي وغيرهم مما لا يستطيع ذهني تذكره الآن، هم أعظم مكافأة لإنجزاتي الصغيرة في الدراسة بهذه المرحلة.
عندما بدأت أولى سنواتي الجامعية وكنتيجة طبيعية لاتساع دائرة من هم حولي، تعرفت على بعض أصدقاء القراءة في الجامعة. كانوا في بداية الأمر سعداء كوني قرأت الكثير من أفضل روايات الأدب العالمي ولكن رويداً رويداً بدأوا في لومي لعدم إهتمامي بالأدب العربي وخصوصا الأدب المصري بما فيه من غزارة إنتاجية واضحة (في وجهة نظرهم). فأجبرت نفسي على البدأ في قراءة بعض الروايات المصرية وكنت أميل في بداية إختياراتي إلى الأعمال الأكثر شهرة. وهنا يجب أن أوضح شئ مهما للغاية، وهو أنني في مقالي هذا لا أدعو القارئ لأن يسلك درباً معينا ً في القراءة، ولكن فقط أحاول أن أكتب عما مررت به في تجربتي الشخصية مع القراءة كي أصل ولو لجزء يسير من الإجابة عن التساؤل الذي طرحته كعنوان للمقال.
فبدأت بقراءة بعض من أعمال نجيب محفوظ ، طه حسين، الرافعي، المنفلوطي، يوسف السباعي ولكنني شعرت بصدمة حقيقية. صدمة لأنني لم أستطع إستساغة معظم هذه الكتابات الأدبية! وأكثر ما حيرني هو نفوري من نجيب محفوظ! هذا الرجل الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، أجد نفسي لا أستطيع أن أندمج مع أعماله وغالبا ما ينتابني الملل في منتصف رواياته! لابد أن الخطأ بي! حاولت أن أفكر في هذه الإشكالية وأراها من أكثر وجه ولكنني فشلت في فهم ما شعرت به. ولما وجدت نفسي لم أعد قادراً على المضي قدما في محاولة إستكشاف مصدر الخطأ، توقفت عن قراءة الأدب العربي وعدت لقراءة الأدب العالمي المترجم من جديد. عدت بحماس ورغبة قوية. أنقب عن كل عمل مترجم لأديب غير عربي.
كانت الترجمة بالنسبة لي أساساً قوياً أستطيع أن أبني عليه حبي للأدب العالمي. فكنت أظن حينها أن العمل لابد أن يكون فائق الروعة كي يحظى بذلك التقدير الكبير المتمثل في ترجمته للغات أخرى. ولكنني بعد فترة من قراءة الأعمال المترجمة وجدت تصوري هذا أقرب للتصور الكلاسيكي المختلف عن التصور العصري والقائم على ترجمة الأعمال البوليسية وقصص الإثارة دون شرط الجودة الفائقة وبمرور الوقت أصبحت أميز بين ما هو مترجم لقيمته الأدبية وما هو مترجم لأسباب تجارية. ولكنني داومت على عادتي، اقرأ كل ما تقع عليه يدي من أعمال مترجمة وأتجاهل هذه المرة بشكل متعمد كل ما هو مكتوب بيد عربي. وكان لابد في تلك اللحظة من حدث يكسر هذه الحلقة المغلقة التي عشت فيها. وقد وقع بالفعل هذا الحدث، لم يكن متوقعا بالنسبة لي أن تتغير وجهة نظري في الأدب العربي بهذا الشكل الكبير من النظرة السلبية البحتة إلى التفكير من جديد في موضوع الأدب برمته. وربما كان هذا الحدث هو بداية الخيط لفهمي سبب نفوري الحقيقي من الأدب العربي في تجربتي القصيرة معه.
ولكنني سأكمل الحديث عن هذا في المقال القادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق