دعونا اليوم في الجزء الثاني ننتقل
لإشكاليات أخرى منها ما يكمن في أن العلم قد أصبح عبئاً مادياً فوق طاقة
غالبية سكان الأرض، فلم يعد في وسع المرء أن يتحمّل تكلفة أن يرسل أولاده
لجامعات بحثيّة ولم يعد في وسعه أيضاً أن يتحمّل تكلفة المضيّ قدماً
بالاعتماد على ذاته في كتابة الأبحاث العلمية، خصوصاً في العلوم التطبيقية .
فإن أردت التفوق علمياً أو البحث في مجال ما، فلابد أن تكون منتمياً بشكل
أو بآخر إلى مؤسسة بحثية أو جامعة أو أي شئ من هذا القبيل، والتي يمكنها أن
تساعدك مادياً ولوجيستياً لتتمكن من التقدّم في أبحاثك.
ولكن أي معايير تضعها هذه المراكز البحثية
والجامعات لقبول طلبة العلم؟ ليس غريباً أن نسأل سؤالاً كهذا. دعونا فقط
نتذكر رفض أساتذة أينشتاين في الجامعة حصوله على منحة لتحضير درجة
الدكتوراة، بل ظلّ تعنّت بعض أساتذته اتجاهه حتى بعد أن توصّل إلى نظرية
النسبية الخاصة، وقد ظلّوا رافضين إعطاءه درجة الدكتوراة بعدما تجلّت
عبقريته في هذه النظرية بدون أدنى شك. ليس غريباً إذن أن نتشكك في أن
مؤسسية العلم قد تسببت في إصابته بالجمود وجعلته يتحكّم في المجالات التي
يريد القائمين على هذه المؤسسات البحث فيها، بل نستطيع أن نقول أن هذه
المؤسسات ومن يقوم عليها قد افتقدوا إلى المرونة الفكرية التي تساهم في
احتضان المتميزين علمياً حتى وإن لم ينجحوا في اختبارات قبول عقيمة تساوي
بين الجميع.
وبالرجوع لجذور التمويل المادي لهذه
المؤسسات والتي تعتمد غالباً على الدول التي تنشأ فيها أو على رجال الأعمال
الذين يحتاجون البحث العلمي من أجل تطوير منتجاتهم الإستهلاكية، سندرك أنه
ليس من الصعب استنتاج أن طريق البحث العلمي في عالمنا اليوم يأخذ (غالباً)
اتجاه تتحكم فيه سياسات الدول ومصالح رجال الأعمال. وليس هناك من ضررٍ على
فكرة البحث العلمي (التي تعتمد على التحرّر الفكري والتأمّل) من أن تتبع
أهواء الساسة أو التُجّار.
أما الأدب فقد شاء القدر أن يظل أسير
التجربة الإنسانية، فمن الصعب أن تجد عملاً أدبياً قد كتبه أكثر من شخص
(على عكس البحث العلمي الذي أصبح العمل فيه غالباً ضمن مجموعات بحثية)،
فالأدب وحتى يومنا هذا لم يخضع (على الأقل كما خضع العلم) للمنهجية
الأكاديمية، وكان لهذا صراحة سلبيات كثيرة، منها على سبيل المثال تزايد عدد
المنشورات التي تدّعي أنها أدبية دون وضوح منهج ما في فرز الجيد من
الخبيث، فالتجربة الإنسانية لا يمكن الحكم عليها إلا من وجهة نظر القارئ
الفرد، وعلى الرغم من ظهور مصطلحات أكاديمية في الأدب، مثل البناء الروائي
والحبكة وجودة اللغة وطريقة السرد وغيرها، إلا أننا ما زلنا نعتمد بشكل
كبير على التذوّق الفنّي لدى القارئ لكي نطلق أحكاماً على المنتجات
الأدبية.
لكن وعلى الجانب الآخر نجد أن عدم تقيّد
الأدب بمنهجية علمية صارمة سمح للكثيرين من الكتّاب أن ينطلقوا معبّرين عن
أنفسهم بوضوح وشجاعة (الكثير من الأدباء نجد أنهم قد درسوا أكاديمياً
مجالات مختلفة ومتعدّدة). ومن الطبيعي أيضاً أن نجد في دول العالم المتأخّر
إقتصادياً بروز الكتابة ونشاط الحركة الأدبية كمتنفّس للكثيرين (يظهر من
بين هؤلاء الكثير من المبدعين في الكتابة الأدبية) ممن دُفِنت أحلامهم في
مجالات دراستهم الأساسية لعدم قدرتهم على أن يمارسوها في ظل تأخّر بلادهم،
أو لعدم تمكّنهم من السفر إلى الخارج لكي يطوّروا من أنفسهم فيها (على سبيل
المثال نجد أن تعنّت الدول المتقدمة في قبول المتفوقين علمياً من الدول
الأقلّ تقدّماً إقتصادياً يتسبّب في إحباط الكثير من الشباب، بالإضافة لبعض
الموانع السياسية والعرقية التي تُظهِر أن العنصرية والتفرقة بين البشر ما
زالت آفة لم يتخلص منها البشر حتى في أكثر المجتمعات تقدّماً مع تحفّظي
مسبقاً على لفظة التقدم).
فالمؤسسيّة التي سيطرت على العلم أكسبته
النظام الذي أدّى إلى سرعة التطوّر وسلبت منه الحرية في اختيار موضوعات
البحث والمرونة في تقبّل الأفكار الغير تقليدية. والتحرّر من قيود النظام
الصارم جعل الأدب قادراً على أن يحتفظ بالكثير من التحرّر الفكري والشجاعة
في الطرح، وقد ساهم ذلك في إطلاق الكثير من الطاقات التي أبدعت أدبيا، ولكن
ربما أضفت على الإنتاج الأدبي شيئاً من الفوضى وبروز ظاهرة النشر من أجل
المكسب التي تتبعها الكثير من دور النشر في أيامنا هذه، بغضّ النظر عن
المضمون الأدبي أو الهدف من وراء ما يُغرِقون به المكتبات.
ربما يحتاج العلم إلى أن يتحرّر قليلاً من
مؤسسيته، وربما يحتاج الأدب لشئٍ من النظام الذي يساعد على ضبط إيقاع سوق
النشر التي ظهر في الآونة الأخيرة أنه لم يعد يهمّ معظم ناشريها سوى
المكسب، ربما كانت هذه هي طبيعة الحياة التي نحياها، فمهما اخترنا لها من
نظام، تجدها قد تعطيك أشياء ولكنها في الوقت نفسه تسلب منك أشياء أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق