إن تاريخ الإبداع الإنساني أهم من تاريخ
الإنسان ذاته، فالإنسان قد يعيش حتى المئة ثم يموت، بينما تعيش أعماله
الإبداعية قروناً في وجدان الناس.
وإن تحدثنا بالأخصّ عن العلم والأدب
كوجهين من أوجه الإبداع الإنساني، فسنجد أن الأديب والعالم بينهما الكثير
من الصفات المشتركة التي يحتاج إليها المبدع بشكل أساسي، فكلاهما يمتلك
الخيال الخصب والحدس والقدرة على الابتكار، هذه الصفات الثلاثة هي الأهم
بالنسبة لهما، فهي التي تساعدهما على استكمال الحلقات الناقصة في سلسلة
الحقائق التي تقع تحت الملاحظة (مهما اختلفت دوافع الملاحظة لديهما)، وهي
التي تساعد أيضاً في العملية الإبداعية التي تُسهِم بشكل مباشر في الفرضيات
العلمية التي يضعها العالِم، كما أنها تساعد الأديب على فهم طبائع الناس
ودوافعهم؛ مما يُحفِّز قلمه على الكتابة عنهم بشكل أكثر مصداقية وقوة، وليس
هناك أفضل من فيودور ديستويفسكي كمثال على مدى عمق الفهم الذي قد يصل إليه
الأديب في تأمّلاته للطبائع الإنسانية.
وفي لحظة ما من تاريخنا، انقسم طريق
العلم والأدب إلى طريقين أخذا في التباعد عن بعضهما البعض، وقد حدث هذا
الانقسام بعدما كان من الطبيعي أن تجد نفس الشخص له إسهامات في الرياضيات
والفلك والطب بالإضافة لكونه شاعراً وخطيباً مفوّهاً. حدث هذا الافتراق
كنتيجة حتمية (مع الأسف) لازدهار حركة الاستنارة في أوروبا، التي ساهمت في
وضع تعريف جديد للعلم. وقد أدى ترسخ هذا التعريف الجديد إلى تجاهل كل ما لا
يستطيع الإنسان إخضاعه تحت الملاحظة و التجريب واستبعاده خارج إطار العلم
بمعناه الأشمل. وقد أدّى هذا بالضرورة لانعزال العلوم الطبيعية (بما أنها
خاضعة للتجربة والمشاهدة) عن العلوم الإنسانية (التي لم ينطبق عليها
التعريف الجديد للعلم).
أدى هذا الانعزال والتقسيم إلى
تطوّرات وطفرات كبيرة في العلوم الطبيعية في المئة سنة الأخيرة؛ مما جعل من
المحتم تقسيمها من جديد إلى مجموعة من العلوم الجزئية بشكل أكثر تفصيلاً،
وقد ترسّخت في ذهن العلماء فكرة مفادها: كلما كان التقسيم أكثر انتظاماً
ووضوحاً كلما كان البحث أيسر وأدقّ بالنسبة لرجال العلم، وكلما كان التطور
أسرع. ولكن من ناحية أخرى تسبّبت هذه التقسيمات الصارمة للعلوم الطبيعية في
زيادة الصعوبة التي يواجهها الشخص العادي في الاطّلاع على كل ما هو جديد
في العلم، جعلت هذه التقسيمات أمر العلم مقصوراً على عدد قليلٍ للغاية من
الطلبة الأكاديميين وأساتذة التدريس (الذي كان يسعى بعضهم في درب العلم فقط
من أجل الوظيفة المرموقة بغضّ النظر عن مدى إيمانه برسالة العلم). فامتلأت
المراجع بمئات الرموز الرياضية التي جعلت من الصعب أن يدركها الشخص العادي
إن لم يكن قد ألمّ بها من قبل أو درسها بشكل أو بآخر. وهذا النوع من
الدراسة أو الإلمام ليس يسيراً أو متاحاً لغالبيتنا بالتأكيد.
والسؤال الذي يطرح نفسه باستمرار هو:
من الذي يستمر في تقسيم العلوم الطبيعية بهذه الطريقة؟! والإجابة الواضحة
لهذا السؤال هي أن الأمر برمّته أصبح أسيراً لفكرة المؤسّسية. خصوصاً
المؤسسات الأكاديمية كالجامعات والمراكز البحثية الكبرى. وبالتحديد مجموعة
الأشخاص الّذين يمثّلون صفوة العلماء في هذه المراكز. هؤلاء هم من يشكّلون
خريطة تقسيم العلوم في عالمنا اليوم. ولكننا ما إن نصل إلى هذه النقطة حتى
نعود لنتساءل من جديد: هل معرفتنا أن مصير العلوم يقع في يد هؤلاء العلماء
من الممكن أن يكون سبباً كافياً ليجعلنا نطمئن لمصير العلم وعلاقته بعالمنا
الذي نحياه الآن أو حتى علاقته بمستقبلنا الذي نحن مقبلونعليه؟ لا أظن أن
الإجابة على هذا السؤال سهلة.
هناك بالتأكيد بعض الإشكاليات الأخرى والتي هي في غاية الأهمية. وسوف نتحدث عنها باستفاضة في الجزء الثاني من المقال، السبت المقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق