كانت تسير ذهابا وإيابا .. متجولة بين
الشارعين الرئيسين في المدينة .. يدها ممدودة أمامها باسطة كفها .. تطلب
المساعدة ممن تراهم يستطيعون مساعدتها .. طفلة . لا تتعدى الحادية عشر ..
ترتدي سروالاً رجالياً وخمارا أبيض متسخا .. تبدو عليها كل ملامح الطفولة
.. ولكن أي طفولة تعيشها طفلة مثلها .. تطلب .. ثم تطلب .. يوقفها رجل
ليسألها عن حالها .. يستفسر منها .. يزم شفتيه ثم يمضي .. يتكرر الموقف
معها ثلاث أو أربع مرات يوميا بين سيدة أو شاب أو كهل .. الكل يستفسر
ويعطيها في يدها ما يعطي ويذهب.
اعتادت على تلك السخافات .. ذلك الادعاء
بالشعور أنهم يشاطرونها مآساتها .. لم تعد تلقي لهم بالاً .. تحكي لهم
كشريط مسجل وتمضي كما يمضون بعدما أخذت منهم ما أرادوا أن يعطوه لها.
هل يشعر أحدهم بذلك البرد القارس الذي
يوخز عظامها .. تلك اللفحات المتتالية من هواء الشتاء المؤلم .. هذا السير
لساعات .. لا تستطيع أن تقنع نفسها بأنهم يشعرون بأي من ذلك في معاطفهم
الغالية ..
وأما الأكثر ألما من كل هذا .. الأكثر
ألما من طلب المساعدة “التسول” .. الأكثر ألما من البرد .. هي أمها .. كانت
امرأة فظة .. تصرخ فيها كلما رأتها لا تقوم بوظيفتها التي فرضتها عليها ..
لا تتورع في صفعها وجعلها تبكي .. بدون ذرة من المشاعر ..
يذكر ذات مرة أنه شاهد أمها تضربها .. مرة
.. اثنتين .. تتوالى الصفعات والبنت لا تتحرك .. فقط تبكي .. كان البرد
قارسا بشكل لا يتحمله شاب مفتول العضلات .. وفي غمرة تلك المعاناة التي
كانت تحدث لدقيقتين أو ثلاث بدت وكأنها لن تتوقف؛ ظهر شاب .. شاب عادي ..
كان في طريقه إلى بيته فوقف للحظة يتأمل المشهد .. خطى خطوتين باتجاههم ثم
تراجع ومضى في طريقه. ثم شعرتُ بأنه قد أنب نفسه وعاد مرة أخرى إليهما ..
كل ما فعله أنه وضع يديه بين صفعات الأم ووجه الابنة .. قال لها بهدوء
وبنظرة حادة : لا تضربيها ..
صُعِقت المرأة .. لم تقل أي كلمة .. سأل الطفلة: من هي ؟
فقالت : والدتي ..
أدار وجهه للمرأة وهو ممتلئ بالدهشة والألم والحزن قائلا : لماذا تضربينها ؟ ماذا فعلت كي تستحق كل هذا ..
ردت عليه بصوت ضعيف: لا تنصت إلى كلامي ودائما ما ترد عليّ بصوت عالٍ ..
زفر زفرة شديدة ماسحا على وجهه وكأنه يعيد
إليه الدم الذي هرب من البرد ثم قال بتؤدة منهياً كلامه : إن كنتِ
تضربينها من أجل مال فكوني صريحة وأنا سأعطيكِ المال الذي لم تجلبه هي
اليوم .. وإن كنتِ تضربينها من أجل ذلك الهراء الذي قلتيه فأنا أستطيع أن
أضعك في الحبس فلا تجعليني أقدم على فعلة كهذه .. فاحذريني ولا تمسيها بسوء
مرة أخرى ..
التفت مرة أخرى إلى الفتاة هامسا في أذنها
.. إن مستك بسوء فستجدينني في نهاية الشارع كل يوم، تعالي فقط وأخبريني ..
هزت الفتاة رأسها بصمت ومسح عنها دموعها وتركها مع أمها وذهب ..
هذا الشاب غريب بالفعل .. يفعل أشياء أنا
لا أستطيع فعلها ولا أجرؤ عليها .. يقترب من أناس نشعر بالخوف منهم أو
بالخوف من أن يسببوا لنا أية مشاكل بل نشعر بالقلق من فكرة أن ينتسب وجودهم
لنا إن رآنا أحد معهم ..
دعوني أذكر موقف آخر فعله ذلك الشاب الذي لا يتجاوز الخامسة والعشرين ..
كان يقف على ناصية الشارع يتأمل أحوال
المارة .. ثم وجد شابة قصيرة تلتحف بخمار حاملة بين يديها طفلا رضيعا ..
اقترب منها .. نظر إليها فلاحظت نظراته .. تعجبت .. مضت في طريقها فلاحقها
.. ثم سبقها ووقف مستندا إلى سيارة قديمة .. راقبها وهي تطلب المساعدة من
أي شخص فبدت له عديمة الخبرة في التسول .. لفت ذلك انتباهه أكثر فأكثر ..
انتظرها .. اقتربت منه تطلب المساعدة فتفاجأت بأنه هو الذي كان يراقبها منذ
قليل .. بادرته مهاجمة : لماذا تتبعني ..
فقال : أنا .. ! لا أتبعك .. فقط أتابع ما تفعلين ..
صمتت .. ثم قالت في يأس : هل لك أن تساعدني بشئ ..
قال هذا السهل أما الصعب هو أن تقولي لي بصدق لماذا تطلبين المساعدة ..
عدلت من وضع طفلها الرضيع فسألها ملاحظا :
ولدك أم أخوك .. فردت : ابني يبلغ خمسة أشهر .. ولدي بنت في المنزل مع
أختي .. تبلغ سنة ونصف ..
وأين زوجك ؟
في السجن ..
لماذا ؟
قضية مخدرات لفقها له أبوه لأنه لم يرد أن
يشركه في الميراث مع باقي إخوته . أنا زوجي يعمل بأجر يومي في تجهيز الشقق
الجديدة ودهانها .. كل يوم أوقظه ليذهب إلى العمل .. أجرة يومه ستون جنيه
.. لم أكن أفكر في أن أنزل إلى الشارع وأطلب المساعدة لو كان موجودا .. ما
كان ليرضى حتى وإن تهالكنا جوعا.. ولكن زوج أختي هو من أجبرني على ذلك ..
لا ملجأ لي .. ولا شئ بيدي لأفعله غير ذلك .. أتعلم يا أستاذ .. لففت ابنتي
بغطائين كي أنزل في ذلك البرد .. قل لي ماذا أفعل ..
- كم عمرك
- خمسة وعشرون
- يظهر الألم على وجهه .. وزوجك كم سنة حُكِم عليه
- ست سنوات
ينحبس النفس في جوفه .. يصمت .. معنى هذا أنه سيخرج من سجنه ليرى ابنته الأكبر لأول مرة وهي في الصف الأول أو الثاني الابتدائي
فأكملت له كلامه : وابنته التي على كتفي لم يرها عندما قبضوا عليه .. كنت ما أزال في شهور الحمل ..
أمسكها من ذراعها برفق .. فتح يدها .. وضع
فيها ما وضع وقال : لا تنزلي مرة أخرى .. وأول جمعة من كل شهر انتظريني
هنا في نفس الوقت ..
حاولت أن تتكلم ولكنه منعها وأكمل : ولكن
كوني على علم .. إن رأيتك مرة أخرى تفتحي ( تفتحين ) يديك لتطلبي من أحد
فلا تنتظريني مرة أخرى.. أي شئ ستحتاجين إليه ستطلبينه مني أنا فقط وإن لم
أؤدي ما عليّ اتجاهك فلك الحق حينها أن تفعلي ما تريدين ..
ظهرت في عينيها دمعتان محبوستان وقالت له : لم يلزمك أحد بواجب تجاهي ..
فأشار بإصبعه على فمه دليلا على أمره
إياها بالصمت .. ثم ابتسم ليداري ألمه وقال : الآن عودي لبيتك ولابنتك
الأخرى .. دون أي كلام .. فامتثلت لما قال ..
أنا لا أروي لكم تلك الحكايا لشئ سوى
لتساعدوني أن أفهم .. من الممكن أن تكون تلك القصص مقبولة لو كانت قد حدثت
من رجل طاعن في السن أو ناضج أو متزوج ومستقر .. أما من شاب .. لم يعرف قط
ماذا يخبئ له القدر .. وبتلك النظرات الهادئة المتألمة .. وبذلك الصوت
الدافئ الذي يتخذ مساره مصمما أن يصل لمحدثه بوضوح في برودة الشتاء القارسة
.. في أي شئ كان يفكر ..لا أخفي عليكم دهشتي .. ولا أستطيع أن أفهم ما يفعله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق