الأحد، 11 مايو 2014

لماذا أحب الأدب العالمي (2-2)




كانت البداية حين تركت العراك والجدال بشأن جودة الأدب العربي وطلبت منهم أن يقترحوا عليّ شيئا مكتوباً بيدٍ عربية، يكون قادراً على أن يجعلني أغيّر رؤيتي للأدب العربي من جديد. فاقترح عليّ أحداهم أن أقرأ رواية ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور. لم أكن أعرفها أو أعرف روايتها، فصدمه جهلي بها وأعطاني الكتاب ووعدته بقراءته. ظل الكتاب أمامي ثلاثة أيام ولم أمسه. كنت حينها قد بدأت في قراءة مجموعة متتالية من روايات الأدب الإنجليزي من ترجمة العبقري مختار السويفي، هذا الرجل الذي أدين له بالفضل في التعرف على الكثير من الروايات الإنجليزية أو الأمريكية والتي كانت من ترجمته الرائعة.

ولأن الحظ أو الصدفة أو يد القدر التي لا نعرف إلى أي وجهة تسوقنا قد جعلتني آخذ الرواية معي إلى الجامعة على أمل ضعيف أن أبدأ فيها بين فواصل المحاضرات. وانغماساً في ترك نفسي ليد القدر فيما يخص هذه الرواية، فقد وجدت أنني مصاب ببعض الإرهاق الذهني وأكتفيت بحضور المحاضرات حتى العصر وتبقى أمامي ساعتين على الأقل قبل أن تغرب الشمس وهو الوقت الذي لا أشعر بمتعة القراءة كما شعر بها أثناءه.

جلست سانداً ظهري إلى شجرة صفصاف كبيرة تنفذ آشعة الشمس من أغصانها العتيقة والتي تكاد تقترب من الأرض. نفذت لأنفي رائحة العشب والتقطت عيني حماسة الربيع في إبريل. فشعرت مرة أخرى وكأن وجودي في هذا المكان بهذه الطريقة في هذا الوقت من تدبير من لا نعلم كيف يدبر، ثم سرعان ما صارعني في تلك اللحظة هاجس مضاد بأن كل هذا لا يتعدى كونه صدفة. أخرجت نفسي من صراعات هواجسي بالتأمل في غلاف الرواية الذي كان يحمل صورة امرأة بشكل فلكلوري غريب. لم أفهمه ودفعني هذا أكثر للبدء فيها. وما إن بدأت في قراءتها حتى وجدت نفسي لم أشعر بالوقت وفاجأتني الشمس وهيتغرب وها أنا ذا لم أغادر مكاني منذ أن جلست أتأمل آشعة الشمس تحاول النفاذ من بين أغصان الصفصاف.

لن أتحدث عن الرواية، فهي من النوع الذي لا تستطيع أن تتحدث عنه بل لابد أن تقرأه. سأقول فقط أنني لم أذهب إلى الجامعة لمدة يومين حتى انتهيت منها، ولم أذهب ليومين آخرين بعدما انهيتها. كم مرة بكيت وأنا أقرأها؟ كم مرة بكيت بعد أن قرأتها ؟ كم مرة هاجمتني في بداية نومي؟  كم مرة شعرت بالأمل مع شخصيات الرواية وكم مرة انطفأ أملي؟ كل ما أستطيع أن أقوله أنني لم أشعر بشئ من قبل كالذي شعرته معها. عدت إلى الجامعة وأعطيت صديقي روايته وعندما سألني عن رأيي، رددت عليه بجملة واحدة فقط: أريد شيئا آخر كهذا. ابتسم بهدوء وقال لي: للأسف ليس من السهل أن يكتب أحدهم شئ كهذا.

لم يتوقف ذهني عن التفكير بعد هذه التجربة. بدا أن كل فكرة كادت أن تُرسِخ قواعدها في عقلي (وما تشمله هذه القواعد من تصنيفات لجودة الأدب طبقا لبلاد بعينها أو ثقافات معينة) وكأنها قد بدأت في التزعزع. ومنذ هذه اللحظة بدأ الشك والارتياب يغلب على طريقة تفكيري أكثر من البحث عن اليقين والراحة الذهنية. فما قرأته في ثلاثية غرناطة لم يكن مجرد سرد قصصي أو حبكة روائية متشبعة بالتاريخ. هذه الرواية دراسة تاريخية/ إجتماعية/ نفسية لجزء من الألم الذي عشناه في فترة من تاريخنا لم نكن نعلم عنها سوى القليل للغاية. هذه الرواية إن أردنا أن نفككها لمجموعة من الدراسات سنحتاج لأضعاف عدد الورق الذي أُنجِزت فيه. فهمت في اللحظة التي قرأت فيها ثلاثية غرناطة كيف يمكن للأدب أن يكون معبراً عن التجربة الإنسانية بصدق حقيقي دون أي مبالغات إنفعالية أو إثارة لا مبرر لها.

مرت أيام قليلة قبل أن أقابل نفسي صديقي هذا ولكن في هذه المرة تعرفت عن طريقه بصديقة أخرى مهتمة بالقراءة ومتحيزة بشدة للأدب العربي. فحدثها أمامي عن حبي لثلاثية غرناطة. فردت بشئ من تقليل الأهمية وبنظرة ناعسة: كيف يمكنه ألا يحبها. فسألها إن كان هناك شئ مشابه لها ، فأجابته بالتأكيد لا فهي ثلاثية غرناطة ولا يمكن أن يكون هناك شئ قريب منها ولكن هناك أعمال أخرى لكُتّاب آخرين كعزازيل على سبيل المثال. وتكرر الموقف ثانية فبدت على وجهي كل علامات الجهل بالكلمة التي نطقتها فتعجبت هي الأخرى وسألتني بنبرة لوم مندفع: كيف لا تعرفها؟ فإن كنت لم تسمع بها فبالتأكيد لم تسمع عن يوسف زيدان. فسكت لأنني لم أُرِد أن أدخل في جدال لن أستفيد منه شئ. تدخل هنا صديقنا المشترك وأوضح لها أنني لم أكن مهتماً من قبل بالأدب العربي ومعظم قراءاتي من الأدب المترجم. فنظرت لي نظرة بها شئ من الازدراء وقالت في نفور: التعلق بالغرب ! متى سنتخلص من هذه الآفة.

أردت هنا أن أوضح الأمر، أردت أن أوضح أن الأدب العالمي بالنسبة لي ليس أدب أوروبا، ولكنه خلاصة التجربة الإنسانية سواء كانت من الأدبيات الأوروبية الكلاسيكية، أدب أمريكا اللاتينية، الأدب الأمريكي، الأدب الروسي أو الأدب الياباني والصيني. أردت أن أقول لها أن مختار السويفي وصالح علماني وسامي الدروبي قد قاموا بمهام لا تقل عظمة وأهمية عن أهمية من أبدع في الكتابة بالعربية. أردت أن أوضح لها أنني تحررت من قيود المكان أو الزمان بحبي للأدب العالمي وأن الموضوع ليس تعلقاً بالأدب الغربي كما قالت. أردت أن أقول لها أنني أسعى لفهم الإنسان وتجربته ومشاعره مهما اختلفت البلاد أو اللغات التي عبّر بها الإنسان عن هذه التجربة وهذه المشاعر. أردت أن أقول كل هذا ولكنني منعت نفسي بصعوبة تجنباً لأي زيادة في حدة الجدال خصوصا مع شخص مندفع في حماسته مثلها. غيرت الموضوع وطلبت منها أن تُعيرني عزازيل إن كانت تمتلكها فوافقت بشرط ألا أثني الصفحات. فقلت لها بابتسامة مفتعلة : لم أثن يوما صفحة كتاب قرأته.

لا يجد القارئ صعوبة في أن يستشف أنه قد حدث معي وأنا أقرأ عزازيل ما حدث وأنا مع ثلاثية غرناطة. لن أتكلم عن المعاناة النفسية والصمت لمدة يوم كامل بعد قراءة الرق الذي يتحدث فيه يوسف زيدان عن قتل هيباتيا. لن أتحدث عن أي شئ. لم أجد في نفسي القدرة على قراءة شئ لمدة تتخطى الشهر بعد أن قرأت هاتين الروايتين. أعطيت نفسي قسطاً من الراحة بعدهما وتفرغت كلياً لمحاولة فهم سبب تعلقي بهما إلى هذه الدرجة التي لم أختبرها من قبل. كنت أجلس وحيدا، أستمع إلى الموسيقى، أقرأ دواوين درويش ونزار وجويدة التي كنت قد قرأتها من قبل مرات. أستمع لشوبان، شوبارت، فيفالدي، خواكين رودريجو وغيرهم. وفي بداية يوم من أيام أجازتي الأسبوعية بدأت قائمة تشغيل الموسيقى بالمقطوعة الثانية من Concierto de aranjuez لخواكين رودريجو. وما أن انتصفت المقطوعة حتى وجدت روحي كذرة غبار تحركها أقل نسمة هواء، تروح بها وتجئ.وما إن تملكني هذا الشعور حتى وجدت قلبي يحدثني قائلا: إنك أردت الهروب من كل قيد كذرة غبار.

الهروب! إنني بقراءتي للأدبيات المترجمة أهرب من المكان والزمان. وعندما وجدت الهروب في أعمال مكتوبة بالعربية أحببتها. الهروب! يالها من فكرة. الهروب من واقع لزج. واقع يمتلأ بالأسى وانعدام الوعي. الهروب في التجارب الإنسانية الأخرى، في مكان وزمان آخر. ربما لهذا نقرأ أصلا الروايات! لمحاولة الغوص في تجارب أخرى غير التجارب التي نمر بها في حياتنا. لم أحب نجيب محفوظ لأنه كان يمتلئ بالواقعية التي أهرب منها. إن المشكلة بالنسبة لي ليست مشكلة مع ذاتي بقدر ما هي مع المكان والزمان. مشكلتي كانت مع واقع يقتحم حياتنا بكل بفجاجة ليشوه ما بقى في نفوسنا من بعض جمال. ربما لهذا أحببت ثلاثية غرناطة وعزازيل. ربما لأنهما جعلاني أهرب! أهرب إلى حياة غير التي أحياها حتى ولو كانت الحياة التي أهرب إليها ممتلئة أيضا بالمعاناة حتى ولو كان هروبي فيهما مجرد هروب خيالي، ولو كان مجرد صفحات على ورق.
فهل العقاد كان مصيبا عندما قال : إنني لا أقرأ لكي أكتب. أنني أقرأ لأن القراءة تجعلني أعيش أكثر من حياة، لأن حياة واحدة لا تكفيني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق