الاثنين، 28 أبريل 2014

الخِمار المهلهل



الخمار



كانت كل ليلة، في التاسعة تقريبا، تمر في ذلك الشارع المزدحم بالمحال والنساء والرجال. من يبحث عن حذاء .. قميص .. سروال .. هناك أيضا من يبحث عن مستلزمات الزواج .. الهدايا .. وكأن احتياجات المدينة كلها قد أصبحت في هذا الشارع. أما هي .. بخمارها المهلهل المتسخ ونقابها الأسود المهترئ الذي لا يظهر منه سوى عينيها التي تنضح بالأسى، يجعلها لا تبدو أنها قد أتت إلا من أجل شئ واحد فقط.
كانت تفتح يدها اليسري منبسطة تطلب ما يلقيه إليها المارة من قطع نقود معدنية لا تتجاوز قيمتها الجنيه الواحد. وعلى ظهرها تحمل ابنتها التي لم تكن قد تجاوزت العام. وفي هذه الليالي التي تمتلئ بالبرد القارس في شتاء ديسمبر كان يراها كل يوم وهي تمر أمامه. بنفس الخمار .. نفس الحذاء الممزق .. نفس الهيئة .. تنظر إليه نظرة خاطفة وتبعد عينيها عنه سريعا. كان يراها تطلب من الناس كلها إلا هو. فدخل إلى قلبه التساؤل والتعجب وكان مرورها اليومي دون كلل أو ملل أو تعب ما يزيد من تعجبه.
تمُر .. تنظر بشكل خاطف .. تشيح بوجهها عنه .. تستمر في السير .. تمُر ثلاث أو أربع مرات في الليلة الواحدة أمامه .. يقف هو أمام المحل ينظر إلى الطريق والناس .. يتأمل أحوالهم .. انفعالاتهم … يحاول النفاذ لأرواحهم .. أحيانا ينجح وغالبا ما يفشل .. ولا يعود إلى داخل المحل الذي يعمل فيه إلا إن كان هناك مشتري يريد شيئا ما..
وكالعادة عندما كانت تمر في ليلة من ليالي الشتاء المتعاقبة، والتي تشعر مع تكرارها أنها لن تنتهي، خطى فوق الرصيف خطوة. وبعد أن مرت من أمامه، أسرع خطوتين وراءها ولمس كتفها مُنبِهاً. التفتت في شئ من الخوف .. نظرت إليه نظرة متحيرة .. لاحظ ذلك من اتساع بؤبؤ عينيها .. ابتسم ببساطة .. وضع في يديها قطعة نقود معدنية وابتسم ابتسامة مُطمئِنة ثم التفت وعاد إلى المحل مسرعاً .. في ماذا كانت تفكر يا ترى .. حاول أن يصل لشئ ولكنه لم يستطع .. لم يكن يظهر على عينيها الكهولة ولم يكن جسدها النحيف يعطيها عمراً يتعدى الثلاثون ربيعاً. حاول أن يطردها من عقله ولكنه لم يستطع. قرر أن يسئلها. عن أي شئ! لم يكن يعلم. ولكن هناك شئ بداخله يربطه بهذه المرأة.
وفي اليوم التالي أيضا وكالعادة كانت تمر .. هذه المرة لم تنظر لعينيه قط .. مرت بجانب الرصيف وتخطته كأنه ليس موجوداً .. تبعها مسرعاً .. لمسها من كتفها بنفس طريقته بالأمس .. التفتت .. نظرت .. سمع من صوتها محاولات كلام تائهة .. توقفت محاولاتها .. سكتت ..
حاول أن يتخلص من صمته .. فقال وهو يضع في يديها ورقة مالية من فئة العشرين جنيه: الوقت متأخر الآن ولن تجدِ أحد يمر في الطرقات وإن وجدتي فلن يكون عددهم أكثر من أصابع اليد الواحدة وها أنا أعطيكي ما قد تناليه فيما تبقى من الليلة إن كنتِ صاحبة حظ جيد ..
ابتسمت .. لم ير ذلك على شفتيها ولكن لاحظه في عينيها .. هزت رأسها .. وردت بكلمة واحدة: شكرا .. والتفتت تُكمِل طريقها فحاول أن يستبقيها ولو لدقيقة أخرى ..
قال: كما اتفقنا لا استمرار في السير في الطرقات في هذا البرد ..
فقالت: حسنا .. لا استمرار في السير ..
فأكمل: الذهاب اللي بيت والانغماس في الفراش ..
فرددت وراءه بصوت يشي ببهجة خائفة ..
فابتسم لها وقال: ألن تدعو لي ..
فقالت: دعوت لك بقلبي ..
صدمته مفاجأة الرد وشجعته، قال: كنت ألاحظ أنكِ لا تطلبين مني كما تطلبي من غيري عندما تمري بالشارع ..
نظرت إلى الأرض .. لم تسعفها الكلمات للحظات ثم قالت : لإنني لم أنظر إليك كمانح للمساعدة ولو مرة واحدة .. دائما ما كنت شيئا آخر غير ذلك .. تلعثمت ولم تكمل .. سكتت وتركته .. مشت سريعا .. نادى عليها ولكنها لم تقف ..
ماذا كانت تعني بهذه الكلمات .. ظل يسأل نفسه طويلا ولكنه لم يصل لشئ .. في اليوم التالي لم تمر .. واليوم الذي يليه .. واليوم الذي يليه أيضا .. مرت ستة أشهر ولم تعد تمُر .. فكر كثيراً في كلماتها .. هل كانت تنظر إليه بإعجاب .. تعجب من هذه الفكرة التي باغتته فجأة. ثم تعجب من تعجبه منها .. أليست إنساناً .. يشعر ويحب ويميل ويمتلك عاطفة. أم لكونها طالبة للمساعدة لضيق يدها أصبحت جماد في نظرنا لا تشعر ولا تملك أن تشعر.. كم نحن أنانيون نفكر في أنفسنا وفقط ..
كانت تراه أكثر من مانح للمساعدة .. كانت تراه كإنسان .. تميل إليه كإنسانة .. وإن كان يقف بينها وبينه كونها متسولة في نظر البعض .. متطفلة ومتبجحة في نظر البعض الآخر .. كانت نظراتها له خاطفة لإنها لم تكن تملك غيرها ولا تريد له أن يشعر بأكثر من ذلك التساؤل دون إجابة .. كانت امرأة .. تتصرف معه كامرأة .. تشعر كامرأة .. ولكن معه هو فقط .. سأل عنها .. عرف أن زوجها قد مات وليس لديها سوى تلك البنت التي تحمِلها على ظهرها، ولم يتقدم أحد للزواج منها لأنها لم تكن قادرة على الانجاب بسبب مشاكل حدثت لها في ولادتها الوحيدة.
ظل طيفها يأتيه على فترات متقطعة .. لم يزل يشعر بالدهشة من تلك الحادثة التي قد يشعر البعض أنها عابرة .. فكر كثيرا فيها .. كلما تذكر ما خمنه حدسه اتجاه مشاعرها شعر أن حياتنا ليست إلا واجهات زجاجية لامعة لمحال خالية على عروشها من أي شئ أصيل .. فلم يعد يهمنا ما بداخل المحل .. المهم أن تكون واجهاتنا أمام الآخرين تلمع وتتزين بكل ما هو مشرف .. حتى لو كانت حقيقتنا أشد سوءاً بكثيرا من هذه الواجهات .. شعر أن هذه المرأة ومن على حالها هم الذين يكشفون جحودنا وجمودنا .. إهمالنا لهؤلاء هو خطيئتنا التي تكشف لنا عوراتنا .. هؤلاء يحتاجون منا ما هو أكثر من النقود .. هؤلاء يحتاجون منا حباً خالياً من الشفقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق