الأحد، 6 أبريل 2014

هل قرأت رواية مرتين



أظن أن غالبية من يحب القراءة قد دفعه القدر إلى قراءة رواية ما مرتين على فترتين متباعدتين. فقراءة عمل مرتين تفصل بينهما فترة زمنية طويلة نسبياً تختلف عن قراءة نفس العمل مرتين متتاليتين مثلما فعلت مع باب الخروج و 1984 كما ذكرت في مقال الأسبوع الماضي.


إن الأثر الذي يتركه فينا عمل ما عند قراءته للمرة ثانية بعد فترة طويلة نسبياً لهو حقاً غريب ومثير للانتباه. فقد نجد أنفسنا أحيانا مندهشين من روعة هذا العمل وكيف لم نتذوقه ولم نحبه في قراءتنا الأولى له، كيف لم نجده ذي قيمة وروعة أدبية في السابق. وقد نستطيع أن نتفهم هذا الشعور على أنه نتيجة للنضج الفكري أو اتساع الأفق والقدرة على استيعاب مضامين لم يتسع عقلنا لها في مرحلة عمرية معينة، عندما كنا لا نمتلك الكثير من القدرة على التأمل والتفكير فيما نقرأ بشئ من العمق.


وقد ينتابنا شعور مضاد تماما لما تحدثت عنه منذ قليل. فنشعر بشئ من خيبة الأمل والفتور، ونتساءل كيف كنّا نجد تلك الروايات هي أعظم ما قرأنا، كيف كنا ننزعج بشدة إن وجدنا من أصدقائنا أو ممن حولنا من ليس متحمسا لها بقدر حماستنا، وكيف لم يشعروا بها كما شعرنا !. نتذكر كيف كنا نقف عند تلك الفقرة ونتنهد من فرط الألم، نشعر بضيق من فرط الحزن أو تملأنا رغبة حقيقية في الخروج وتأمل الكون عند قراءة جملة تمتلئ بالحكمة على لسان أحد شخصيات الرواية.عندما نتذكر كل هذا ونجد أن كل تلك المشاعر القوية قد تلاشت نسبياً، نجد حماسنا اتجاه هذه الروايات قد قلّ وتعلُقنا بها قد خفت. نتعجب ونتسائل في حيرة، لما يا ترى هذا التغير الذي حدث لنا؟ والسؤال يبدو للوهلة الأولى به شئ من الغموض، ولكنني سأحاول أن أطرح ما فكرت فيه هنا لأترك لكم في النهاية الحق في إضافة آرائكم لما سأقوله أو الإعتراض على ما توصلت إليه.


ففي ظني، إن ما نشعر به من خيبة أمل أو فتور في المرة الثانية لقراءة رواية، ما هو إلا تجلي من تجليات طبيعتنا الانسانية. إن الشخص عندما يتعلم جدول الضرب والقسمة مثلاً، يملئه الحماس والشعور بالفخر. وينتقل من مرحلة دراسية إلى أخرى وما إن يصل لمرحلة متقدمة في دراسة الرياضيات حتى نجده يسخر من كونه كان فيما مضى يشعر بكل هذا الفخر لتعلمه جدول الضرب والقسمة. إنها طبيعتنا الإنسانية المبنية على الفضول ومحاولة الكشف عن كل ما هو مجهول والتقليل من قيمة كل ما نملكه بين أيدينا فعلياً. وستظل هذه الطبيعة جزءا من تكويننا ما دمنا بشراً.


ولنتخيل أن عقل الإنسان كبيت كبير للغاية. بيت به عدد لا نهائي من المصابيح يساوي عدد الكتب التي أنتجتها الإنسانية جمعاء في كل المجالات. وكلما قرأ المرء كتابا أحدث في عقله ما تُحدِثه إضاءة مصباح في بيت معتم. فعندما نقرأ رواية ما في بداية ممارستنا للقراءة نجدها تفعل فينا كما يفعل المصباح الذي يضيئ بيتا غارقا في العتمة. فإن تألق المصباح بالضياء – وإن كان ضئيلا- في بيت معتم يعدو حدثاً ليس هيناً لصاحب البيت. فمن بعد العتمة ها هو الضوء ينبعث من أحد أركان البيت.


ويمر الوقت و ما يزال المرء حريصا على القراءة، دؤوبا على المطالعة، يسعى لإنارة عقله، يريد أن يعرف تفاصيل ما يدور حوله، يمضي قدما في محاولة إكتشاف ذاته. حتى يصل إلى لحظة يشعر فيها أنه يريد شيئاً من الراحة الذهنية، لحظة يقرر فيها أن يتأمل الكتب التي قرأها، يتذكر المصابيح التي أضاءت بيته المعتم وكيف كان حاله قبلها، كيف كان حاله لحظة قراءة أول كتاب، فيبتسم ساخرا من شدة انفعاله حينها مقارنة بمئات الكتب التي تضئ عقله الآن. وعندما يقرأ عملا كان قد قرأه في بدايات ممارسته للقراءة يجد نفسه كمن يحاول أن يستبين ضوء مصباح وسط مئات المصابيح المضيئة! فيتملكه شعور بضآلة اللبنة التي قد وضعها في بداية طريقه، وهو لا يدرك كم كان لتلك اللبنة من أثر الآن في كونه يمتلئ بالفهم والضياء، كيف كان لتلك اللبنة من قدرة على إضاءة نفسه المعتمة، كيف كانت قادرة على مساعدته في تلمس الطريق حتى أصبح ما هو ما عليه الآن.


فلنقيّد غرورنا، ولنتذكر ضآلتنا، ولنعلم أننا قد نُفني حياتنا ولا تزال أقدامنا على بداية طريق المعرفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق