كنت قد بدأت قراءة
باب الخروج في عربة مترو الأنفاق، وكان قد تبقى على نزولي فقط محطتان ولكنني ما إن
بدأت فيها حتى وجدت نفسي قد وصلت إلى آخر محطة في خط المترو. لم أشعر بالوقت حقاَ،
وبعد أن أنهيتها شرعت في قراءتها مرة أخرى. فوجدت نفسي أرى كل شئ يحدث فيها وكأنه
يحدث من حولي حسيّاَ. وبعد سنة تقريباَ من قراءتها بدأت في قراءة 1984 ووجدت نفسي
أفعل معها كما فعلت مع باب الخروج، فما إن انتهيت منها حتى بدأت في قراءتها من
جديد، فهاتان الروايتان من النوع الذي يُقال عنه "إنها رواية تُقرأ ثم تُقرأ
من جديد" ولاشك في أن الاستثنائية هي الصفة الأبرز في كلتا الروايتين. وتستطيع
أن تتلمس هذه الصفة فيهما بسهولة من وسط كل مقروءاتك الأدبية. وقد يظن القارئ أن
عدم وجود وحدة في الزمان أو المكان بين أحداث الروايتين، وأن البعد الزمني بين
وقتيّ إصدار العملين –طُبعِت 1984 لأول مرة عام 1949 وطُبعِت باب الخروج لأول مرة
عام 2012- وبالتالي اختلاف الظروف الحياتية التي مر بها كل من الأديبين، بالإضافة
إلى ذلك كله اختلاف جنسيتيّهما من الممكن أن ينفى وجود شئ من التواصل الفكري بين
العملين.
إلا أن القارئ لكلتا
الروايتين سرعان ما سيجد بداخله ما يُحدِثه عن وجود روح هائمة مشتركة بين العملين.
روح أطلقها جورج أورويل بإصدار روايته الفريدة (1984) منذ أكثر من خمس وستين عاما.
روح ظلت حائرة في دروب عالم الأدب الذي يتسع باتساع الكون. تريد أن تستقر في قالب
جديد لا يطمِس أصالتها وينقشها بروح شابة معاصرة بعدما أحدثت ما أحدثته من ضجة
وتسببت فيما تسببت فيه من جدل وثورة في الكتابة الأدبية عن السياسة. فجاء عزالدين
شكري فشير بروايته باب الخروج لينحت لتلك الروح هذا القالب الذي طالما هامت بحثا
عنه. وأكثر ما يلفت النظر في شخصية عزالدين شكري فشير الدبلوماسي وأستاذ العلوم
السياسية الذي يرفض كل تلك الألقاب مهيبة الوقع ويُفضِل أن كان لابد له من لقب أن
يكون "الروائي"، أنه مقتنع تماما بأن العلوم السياسية والدبلوماسية هي
الخلفية المعرفية والعملية التي استخدمها واستغلّها خيال الروائي بداخله كي يحيك
كتابات أدبية ذات طابع سياسي فريد في الأدب العربي المعاصر.
فاستطاع عزالدين شكري فشير في عمله باب الخروج أن يحتفظ بأصالة الفكرة السياسية التي أطلقها جورج أورويل في 1984 في قالب روائي راقي وأضاف إلى ذلك الكثير من التجديد والمعاصرة والمعالجة الأدبية القيّمة مستغلا لغته السهلة وهدوء روحه الذي سرعان ما يصلك من كلماته عميقة المدلول. فكانت باب الخروج بخيال كاتبها الخصب وفي هيئتها الأدبية الأنيقة ومعالجتها السياسية المنضبطة لآلام وطنه هي أقرب إلى أحدى المنحوتات الشامخة متقنة الصنع التي صممها نحات يمتلك أدواته بثقة وقد استلهم هذا النحات روح عمل من كلاسيكيات فن النحت وأعاد لتلك الروح رونقها وبهائها بشكل يتناسب مع الوقت المعاصر بكل ما طرأ عليه من اختلافات حياتية وذوقية.
وعندما اتأمل سريعا قراءتي لـ 1984 تستوقفني جملتين مدهشتين ومثيرتين للانتباه جاءتا على لسان ونستون بطل الرواية، الأولى : إن كان ثمة أمل فهو في عامة الناس. والثانية : لن يثوروا حتى يعوا ولن يعوا إلا بعد أن يثوروا. وعلى الرغم من نهاية الرواية بشكل يُبرِز بشدة مفهوم الواقعية التشاؤمية والتي وصل فيها ونستون إلى حالة حب حقيقي للأخ الكبير، إلا أن المفكر المتأمل في قرائته لهذا العمل يشعر طوال الأحداث أن الاستبداد والقهر والتعذيب مع كل ما ينتاب المرء من شعور بأن لانهاية لهم، إلا أنه لابد وأن يأتي وقت ويحدث الانفجار. وللغرابة فإن هذا الانفجار غالبا ما يحدث في الوقت الذي يتأكد فيه المستبد أن ما من شئ بمزحزحه عن سلطته أو حكمه.
وأما عن باب الخروج، وعلى الرغم من كل ما فيها من ألم وفزع في بعض الأحيان، تجد الأمل بين سطورها دقيقاَ يحتاج لقارئ متأمل كي يراه بوضوح. فترى عزالدين شكري فشير وقد أعلن عصريته وتجديده. فينتشلنا من حتمية الاستسلام التي وصل لها ونستون في 1984 ويضع الثورة من جديد في طورها الطبيعي من حركة التاريخ والشعوب. يأتي ليقول لنا في باب الخروج أن الأمل حقاَ في العامة، يسير بنا في طرقات خياله الذي دونه في روايته المدهشة ليجعلنا نرى كم هو غالي حقا ثمن التغيير والحرية الذي علينا أن ندفعه. يجلعنا نرى كيف يمكن بشكل عملي أن يكون الأمل حقا في العامة. وكيف يمكن لحلقة الثورة والوعي المنغلقة على ذاتها أن تنضج فعليا وأن عملية نضوجها هذه لابد أن تتمخض عن الكثير من الألم والمعاناة التي سوف يمر بها كل من فجر الثورة وحفز الوعي. ولكن هذا الألم هو السبيل الوحيد الذي سوف يصل بنا حتما إلى غد مختلف مهما تأخر ذلك الغد.
ويسير بنا عزالدين شكري فشير في مسارات أحداث روايته حتى نصل إلى الوقت الذي نرى فيه علي، الشخص الأكثر استسلاماَ طوال الأحداث، قادراَ على أن يقف أمام نفسه ويواجهها بجبنه وهروبه الذي اعتاده طوال الوقت. يرتضي أن يضع نفسه في موقف سوف يُتهم بسببه بالخيانة العظمى إن فشلت مساعيه. يجعلنا عزالدين شكري فشير نرى على لسان علي كيف يمكن للشعارات الوطنية التي يرفعها من هم في السلطة أن تكون مجرد غطاء للوصول للمصالح الشخصية. لماذا يفعل علي كل هذا ؟ لأنه رأى المتاجرة العلنية بالوطن والناس من أجل السلطة، رأى أهله وأصدقائه يتساقطون قتلى مع كل أزمة يمر بها الوطن بسبب أطماع السياسيين والعسكريين وتنافسهم الأحمق على السلطة. فيعلن ثورته على طبيعته ويجازف بنفسه وسمعته لأن حدسه قد هداه أن يفعل كل ما في وسعه كي يعطي الشباب الفرصة ليُكمِلوا ما بدأوه. وهذه هي المرة الأولى التي سوف نرى فيها علي يتبع حدسه.
إن الروح الاستثنائية في باب الخروج تبلغ أعلى تجلياتها في عدم تصريح عزالدين شكري فشير بالأمل أو البهجة كما أراد أن يُسميها. فلقد أراد منا أن ندخل بأنفسنا إلى ضمير علي ووجدانه ونتلمس حدسه بأرواحنا التي ظلت تتأرجح بين الشفقة على مصيره تارة وبين تشجيعه على المضي قدما في الدرب الذي اختاره تارة أخرى.
فهل نستطيع أن نقول بأن عزالدين شكري فشير في باب الخروج قد أوجد باباَ للخروج من أجل ما انتهى إليه جورج أورويل في 1984 !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق