في
11 أغسطس الماضي، سافرت إلى القاهرة، إلى المجلس الأعلى للثقافة بدار
الأوبرا، لحضور ندوتين متتابعتين عن الدراما والتاريخ. وكان الغرض منهما
مناقشة الأخطاء التاريخية في عملين دراميين في رمضان. أحدهما بعنوان صديق
العمر ويتناول علاقة الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر. والآخر
بعنوان سرايا عابدين ويتحدث عن فترة حكم الخديوي إسماعيل. كانت الندوة
الأولى في حضور وزير الثقافة. والندوة الثانية كانت من إدارة الصحافي
والكاتب الساخر محمد عبدالرحمن الذي تفضل ودعاني لحضور هذا اليوم الذي
سأحدثكم عنه.
وصلت قبل الميعاد بساعة تقريبا.
وجلست منتظرا حتى بدأت الندوة الأولى. بدأ دكتور جابر عصفور وزير الثقافة
يتحدث عن رغبته في أن تكون الندوة عن الأدب والفن ودور التاريخ وأثره
فيهما. كان يريد من هذا الاقتراح أن يكون من الأفضل تعميم الحديث في هذا
الشأن. أتى الكثير من الأدباء والصحفيين، أساتذة التاريخ ورجال السينما من
فنانين ومخرجين وكُتاب سيناريو بالإضافة لكاميرات القنوات الفضائية
والتليفزيون الرسمي بمذيعيها ومصوريها، يسلطون كاميراتهم على الوزير وهو
يقول كلمته في بداية الندوة ثم يرحلون.
لم يعد هناك يا سادة من يريد
مضموناً، الأهم هو أن تظهر هذه القنوات على أنها ترعى الثقافة في مصر وتغطي
أحداثها، وهي من الثقافة بريئة ولا تعلم عنها شيئا. إنه عصر الصخب والضجيج
والحديث دون مضمون. إنه وقت الإيماغولوجيا –سلطة وسائل الإعلام- كما سماها
ميلان كونديرا في روايته "الخلود". أتذكر أحد الصحفيين كان قد انزعج في
نهاية اليوم لأنهم لم يعطوا الكلمة للصحفيين، الجميع يريد الحديث، من يستمع
إذاً إن تحدث كل هؤلاء. صخب...
ينتهى الوزير من كلمته وتبدأ
الندوة، يظهر على وجهه الانزعاج كلما تكلم أحد من الحضور. يزداد الانزعاج
بمرور الوقت حتى يضطر إلى أن يبتلعه بأكواب متلاحقة من المياه في صمت.
يتحدث بكلمات قليلة مع أستاذ التاريخ د.محمد عفيفي المسئول عن الندوة
بعدها يطلب أستاذ التاريخ من المحاضرين الالتزام بالوقت.
تبدأ الندوة الثانية، يأتي محمد
عبدالرحمن إليّ مرحبا مبتسما في أول مرة أراه فيها على أرض الواقع وخارج
نطاق وسائل التواصل المميتة. ولكنه يُشعِرك كأنه معتاد على وجودك بعفويته
وتلقائيته الكريمة. يقدمني لـ الكاتب الروائي هشام الخشن ويقول له: محمود،
من كتب مقال نقدي عن رواية 1919 لمراد، وأرسلته لك. تنفرج أسارير الرجل
عندما يتذكر المقال ويرحب بي بشدة، ويشكرني على موضوعيتي التي لم أبتغيها
يوما فيما أكتب. يرسل في طلب روايته الجديدة جرافيت ويكتب إهداءه على
الرواية ويهديها لي طالبا رأيي فيها بأقرب وقت ممكن. ألهمتني روايته وعشر
دقائق من الحديث معه بمقالين. وألهمتني خمس ساعات من الحضور لندوة شبه
أكاديمية بهذا المقال. وعلى الرغم من أن الندوة كان بها الكثير من الأشياء
الجيدة، إلا أن الصخب قد آلمني وجعلني في أشد الاحتياج إلى الهروب.
تحدثت مع الروائي هشام الخشن عن
ساراماجو وإبراهيم الكوني، عن موراكامي وإيزابيل ألليندي وفرانز كافكا.
كانت العشر دقائق التي قضيتها معه من الكثافة ما يعوض خفة الندوة إن أسقطنا
المعنى على رواية أخرى لكونديرا "خفة الكائن التي لا تحتمل".
أثناء الندوة التي أدارها محمد
عبدالرحمن انتفخت أوداج رجل كبير في السن لأن الفنان صبري فواز قال أن الفن
ابن زمنه ولا ترموا على عاتقه فشل المدارس والجامعات في أداء دورها في
التوعية والتربية. اتفق صبري فواز وأحمد سلامة وطارق الشناوي على أن مصر
ليس عليها مؤامرة، ولكن الرجل الذي انتفخت أوداجه منذ قليل لم يتحمل هنا
وأخذ ينفجر مجلجلا بصوته في القاعة ليعلن أن مصر عليها مؤامرة، وأن
الليبراليين بمن فيهم وزير الثقافة يريدون هدم مصر. أحمد الله أن وزير
الثقافة كان قد غادر القاعة، فلا يتسع خيالي لأرى ما الذي كان سيحدث وسط كل
هذا الصخب لو كان الوزير لا يزال في القاعة. كل هذا دفع محمد عبدالرحمن
لمحاولة كسر حدة الانفعال والصخب بإعلانه بطريقته الساخرة كالعادة أن
الندوة هي التي عليها مؤامرة ليتم إفشالها، لتهدأ النفوس قليلا وتزداد
الضحكات وتتعالى المحادثات الجانبية. صخب...
انتهى اليوم وأنا منهك كليا،
ظللت اتسائل طوال رحلة عودتي إلى المنزل: هل كل هذا الصخب الذي يحيط برجال
الصحافة والفن والأدب والثقافة هو ما أريده؟ إنني أكتب في ساعات الضحى
الأولى هربا من صخب المدينة والمنزل والعمل. أكتب غير راضٍ عما كتبت. فما
بالكم بنوعية وجودة ما سأنتجه وسط كل هذا الصخب. حتى هذه الندوة لم استطع
الكتابة عنها إلا بعد مرور ما يزيد عن ثلاثة أسابيع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق